كان اغتيال قاسم سليماني الذي نفّذته القوات المسلّحة الأمريكية بأمر من دونالد ترامب عملاً أرعن كما وصفته الغالبية العظمى من التعليقات، بما فيها تلك التي صدرت من داخل الولايات المتحدة. فهو عملٌ أرعن حتى بالمقاييس السياسية الإمبريالية التي تُشرف عليها واشنطن، وقد عوّدتنا على ضرب عرض الحائط بالقانون الدولي وبسيادة الدول. وقد ألحقت الولايات المتحدة بالعراق كارثة إنسانية واقتصادية هائلة منذ أن انتهزت غوغائية صدّام حسين كي تدمّر البلاد في عام 1991 وتستكمل هذا التدمير بحظرٍ مجرم دام 12 سنة. وبعد ثماني سنوات من الاحتلال المباشر بين 2003 و2011، خلّفت واشنطن في العراق حالة يُرثى لها على كافة الأصعدة، من نظام دستوري طائفي إلى وضع اقتصادي كارثي مروراً بتبعية كاملة للدولة المجاورة، إيران، شبيهة بعلاقة استعمارية. وتبلغ الصفاقة الإمبريالية لدى ترامب ذروتها في تهديده بمطالبة العراقيين بتسديد فاتورة المجهود الحربي الأمريكي في العراق ثمناً لخروج قواته، بينما تُملي العدالة البديهية على الولايات المتحدة التعويض عن الخسائر الجمّة التي ألحقتها بالعراق خلال العقدين المنصرمين.
هذا ما جعلنا نناهض باستمرار أي انتشار لقوات أمريكية في منطقتنا ونطالب بانسحابها حرصاً على مصلحة بلداننا ومصلحة العراق في طليعتها، وليس حرصاً على أمن إيران الذي هو الاعتبار الوحيد الذي يحرّك القسم الأكبر من الطبقة السياسية العراقية الغارقة في الفساد. وقد رحّب هؤلاء بالقوات الأمريكية طالما ساهمت في تعزيز تحكّمهم وتحكّم أسيادهم الإيرانيين بالبلاد، ولم تطالب بخروجها سوى عندما أخذت تصطدم بالمصلحة الإيرانية.
ذلك أن قاسم سليماني و«فيلق القدس» ساهما في الحرب الأمريكية على العراق. والحال أن نظام الملالي، بعدما أدّت غوغائية صدّام حسين إلى مبادرته بالحرب على إيران في عام 1980، رحّب بيد العون التي قدّمها له خلال الثمانينيات الشيطانان الأكبر والأصغر في تعريف الخميني، بدءاً بالغارة الإسرائيلية على العراق في عام 1981 وصولاً إلى تزويد طهران بأسلحة أمريكية بوساطة إسرائيلية في عامي 86 ـ 1985، وقد كانت واشنطن «تلعب على الحبلين» في تلك السنوات. ثمّ تواطأت الجماعات العراقية الموالية لطهران والتي أشرف عليها قاسم سليماني مع الاحتلال الأمريكي للبلاد في عام 2003. وخير مثال على هذا التواطؤ المصحوب بالتزاحم الوجه البارز الآخر الذي اغتالته الضربة الأمريكية قبل أيام، ألا وهو الرجل الملقّب أبو مهدي المهندس.
فقد كان المهندس عضواً في «حزب الدعوة»، لجأ إلى إيران إثر الثورة التي قادها الخميني وعمل في صفوف «حرس الثورة الإسلامية» و«فيلق القدس» مشاركاً في الحرب ضد العراق. ثم عاد إلى بلاده في ركاب القوات الأمريكية سنة 2003 بعد أن أسّس «كتائب حزب الله»، وعُيّن مستشاراً أمنياً لإبراهيم الجعفري، أول رئيس لمجلس الحكم الانتقالي تحت الاحتلال الأمريكي، ثم جرى انتخابه نائباً عن «حزب الدعوة» في عام 2005. وبعد أن اكتشف الأمريكيون أن «المهندس» هو نفسه الذي كان قد هندس تفجيرات ضد سفارتي الولايات المتحدة وفرنسا في الكويت في عام 1983، فرّ إلى إيران عام 2007 وأخد ينظّم من هناك عمليات ضد القوات الأمريكية. ثم عاد إلى العراق علناً بعد انتهاء جلاء القوات الأمريكية الرسمي عن البلاد سنة 2011.
حاولت طهران توظيف الحادثة في تعويم نظامها في الداخل ونفوذها في الخارج بعد أن واجها نقمة شعبية متعاظمة، فأجرت جنازة لسليماني فاقت تلك التي أُجريت للخميني، إذ انتقلت داخل إيران من مدينة إلى أخرى بغية تحقيق الحد الأقصى من التعبئة القومية
وقد غضّ الأمريكيون الطرف عنه عندما عادت قواتهم إلى العراق في عام 2014 بدعوة من الحكومة التي ترأسها حيدر العبادي، عضو آخر في «حزب الدعوة» ذاته، وذلك للإشراف على محاربة «داعش». وقد تعاونوا مع قوات «الحشد الشعبي» بالرغم من أن المهندس تولّى منصب نائب قائدها، وكان قائدها الميداني الفعلي بعد قائدها الأعلى الذي كان بالطبع قاسم سليماني. ولولا المساهمة الأمريكية لما استطاعت القوات العراقية تحت إشراف سليماني من الانتصار على «داعش»، أللّهمّ إلّا بعد مجهود أكبر بكثير وكلفة أعلى بأضعاف. والحقيقة نفسها تنطبق على التدخّل في الحرب السورية الذي أشرف عليه سليماني والذي بدأ في عام 2013. فبعد سنتين من ذلك التدخّل كان النظام السوري على وشك الانهيار بما حداه إلى طلب النجدة من موسكو، والحال أن روسيا هي التي قلبت الموازين في سوريا وسمحت لآل الأسد بالبقاء اسمياً في السلطة تحت وصاية مزدوجة روسية وإيرانية. إن التذكير بهذه الوقائع إنما يبيّن مدى ابتعاد الأسطورة التي حيكت حول سليماني عن الحقيقة، وقد جرى تصويره كقائد عسكري في مصاف كبار القادة العسكريين في التاريخ بينما لم يحرز أي انتصار بغير معونة دولة أجنبية أقوى من دولته. فلا استطاعت إيران بسط سيطرتها على جارتها سوى في ركاب الاحتلال الأمريكي، ولم يتمكّن أعوانها العراقيون من التغلّب على «داعش» سوى بمعونة الأمريكيين وبعد دعوتهم للرجوع إلى العراق، ولم يستطع اللبنانيون والعراقيون والأفغان العاملون تحت قيادتها من إنقاذ نظام آل الأسد سوى بفضل الروس.
وهنا بيت القصيد. فقد قدّم ترامب هدية سياسية ثمينة لنظام الملالي الإيراني بأمره باغتيال قاسم سليماني الأسطوري، هديّة تفوق أهميتها فداحة الخسارة التي مُني بها النظام. وقد نشرت وكالة «رويترز» في الرابع من هذا الشهر تقريراً عن مقابلات أجرتها مع مسؤولَين أمنيين عراقيين وقائدين من قادة «الحشد الشعبي»، مفاده هو الآتي: لقد عقد سليماني اجتماعاً في أواسط أكتوبر / تشرين الأول في بغداد مع قادة الميليشيات العراقية الموالية لإيران، حضره المهندس بالطبع. وكانت الغاية من الاجتماع، حسب المشاركين فيه الأربعة، التخطيط لعمليات ضد القوات الأمريكية في العراق لجرّها إلى الردّ بالاعتداء على أهداف عراقية، بحيث يجري تحويل النقمة الشعبية التي انفجرت في بداية ذاك الشهر ضد الوصاية الإيرانية وحكومة عادل عبد المهدي المتعاونة معها، تحويل تلك النقمة ضد الوجود الأمريكي. وبالفعل بادر أعوان إيران في العراق بشنّ هجومات على مواقع أمريكية منذ بدايات الشهر الماضي، وصلت إلى ذروة أولى في 27 الشهر عندما جرى إطلاق أكثر من ثلاثين صاروخا على قاعدة قرب كركوك قُتل فيها رجل أمريكي وجُرح أربعة آخرون، فضلاً عن رجلين عراقيين. وقد أدّى هذا الاستفزاز المتعمّد إلى قيام القوات الأمريكية بردّ الصاع أصوعاً بعد يومين بشنّ غارة على قاعدة «كتائب حزب الله» أودت بحياة 25 رجلا وجرحت 55. فكانت الخطوة التالية هجوم الكتائب على سفارة واشنطن، إلا أن سليماني والمهندس لم يتوقّعا أن الردّ الأمريكي سوف يستهدفهما مباشرة هذه المرّة ويقضي عليهما.
وقد حاولت طهران توظيف الفاجعة في تعويم نظامها في الداخل ونفوذها في الخارج بعد أن واجها نقمة شعبية متعاظمة في الأشهر الأخيرة، فأجرت جنازة لسليماني فاقت تلك التي أُجريت للخميني في عام 1989، إذ انتقلت داخل إيران من مدينة إلى أخرى بغية تحقيق الحد الأقصى من التعبئة القومية. وقد تمحورت النزعة القومية الإيرانية التي يشترك فيها نظام الملالي وقسم هام من معارضيه حول شخصية سليماني بوصفه رمز التوسّع الإمبراطوري الإيراني. وبات السؤال الآن: هل تستطيع الخدمة الجليّة التي قدّمها ترامب لطهران أن تقضي على النقمة الشعبية داخل إيران وعلى الحراك العراقي ضد وصايتها وتسلّط أتباعها؟ يوحي مجرى الأحداث بأن الحراك العراقي على الأقل سوف يتواصل، وقد زاد ما حصل من إرادة لدى غالبية العراقيين، إلى أية طائفة انتموا، في وضع حدّ لاستباحة أراضيهم للاقتتال بين قوتين تبغيان كليهما فرض السيطرة عليهم.
وقد وصل وضع الأمة العربية حقّاً إلى الحضيض خلال السنوات الأخيرة وهي تقبع تحت احتلالات أجنبية خمسة، صهيوني وأمريكي وروسي وإيراني وتركي، ولكل من هذه الاحتلالات أعوان من العرب. فلنأمل في بداية هذا العقد الجديد أن تتصاعد النهضة الشعبية الإقليمية التي بدأت من تونس في بداية العقد الماضي، وآخر ما نجم عنها الحراكان العراقي واللبناني، بحيث تتحقق الحريّة والسيادة الحقيقيتان اللتان تصبو إليهما شعوبنا واللتان لا مجال لتحقيق سائر أمانيها الديمقراطية والاجتماعية بدونهما.
نقلا عن القدس العربي _ للكاتب : جلبير الأشقر