كيف وصل وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، إلى أن يهمّش نظيره الأميركي، جون كيري، ويحوّله إلى وسيط في الملف السوري؟ هذا الأمر يستدعي الكثير من الدرس في الفترة المقبلة، لكي يفهمه العالم على حقيقته. وعلى الرغم من أن قدراً كبيراً من الغموض يكتنف التنازل “المجاني” من واشنطن لصالح موسكو، فإن هذا التحول لم يكن من دون مقدمات، فأبرز ما يميز كيري لدى الشعب السوري أنه رجل لا يحترم الوعود، حيث لم يصدق في أي وعد من الوعود الكثيرة التي أطلقها لمساندة الثورة السورية.
هذا الوزير يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن إغراق السوريين في الأوهام. هو وسيده في البيت الأبيض، باراك أوباما، بقيا يردّدان على مسامع هذا الشعب المنكوب إنشاءً بليغاً، يحاكي في عذوبته أناشيد الخلاص في أناجيل الحرية، وكان أقل موقف أطلقه هذا الثنائي العاجز أن الأسد فقد شرعيته، ولا دور له في مستقبل سورية، وعلى هذا الأساس تم تفصيل عملية جنيف من طرف الأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2012. وبانتظار أن يتحقق هذا الوعد الدولي، دفع السوريون فواتير باهظة، دماً ودماراً وشقاء.
صدّق الشعب السوري أن أميركا سوف تساعده للخلاص من الوحش المفترس بشار الأسد، مثلما فعلت في العراق، حين وضعت ثقلها لإسقاط صدام حسين، أو على الأقل ستضغط، كما تصرفت عام 2011 لإجبار حسني مبارك على التنحي، إلا أنه، على الرغم من فداحة الخسارة التي حلت بالشعب السوري، فإن واشنطن لم تجد حرجاً من سحب نفسها من تعهداتها، وأن تنقلب إلى عكس ذلك تماماً، ولم يجد كيري حرجاً في أن يبلغ أعضاء الهيئة العليا للمفاوضات في الرياض، الأسبوع الماضي، بأن اللعبة في سورية باتت مفتوحة ومتحرّرة من ثوابت جنيف 2012. وبالتالي، لم تعد هيئة الحكم الانتقالي مطروحة، وحلت محلها حكومة وحدة وطنية، ومن حق الأسد الترشح للانتخابات، وعلى المعارضة أن تنزل إلى الميدان، لتبارزه بالطرق الديمقراطية، ناسياً أن المسألة لا تكمن في الانتخابات، بل إننا أمام حالة مريعة من السقوط الإنساني والأخلاقي، تتمثل في إعطاء شخصٍ قتل نصف مليون، ودمر بلداً، حق الترشح لانتخابات رئاسية.
وصف الأمر بالفضيحة أو المهزلة أو السقوط قليل جدا، إنه أقرب إلى الخيانة، خيانة الذات قبل كل شيء. نعم، خان كيري وأوباما الولايات المتحدة والقيم السامية للعالم الحر، قبل خيانة السوريين، وسيكتب التاريخ أنهما سكتا على جريمة العصر، ولم يفعلا شيئاً لإغاثة شعب تعرّض للإبادة.
على عكس كيري، قطف لافروف ثمرة الجهد الذي صرفه في الملف السوري، في السنوات الخمس الماضية، أضعاف ما صرفه على بقية الملفات الدولية التي تهم بلاده. وتبيّنت، في الأيام الأخيرة، خطورة الدور الذي يلعبه ضد الثورة والشعب في سورية. ويمكن تقسيم دوره إلى مرحلتين، قبل التدخل العسكري وبعده.
فقبل التدخل العسكري، كان يشتغل من أجل تعطيل كل الحلول الدولية، وتأمين تغطية سياسية للطرف الإيراني الذي وضع ثقله العسكري كله من أجل القضاء على الثورة، ومارس لافروف دورا تخريبيا من أجل شق المعارضة، وتمكّن، على مدى السنوات الخمس، من لعب الدور الذي تعذّر على النظام أن ينهض به، وهو تجميع الهامشيين من المعارضين الذين يعلنون الوقوف في صف الثورة، لكنهم، من الناحية الفعلية، على أرضية النظام، وضد كل التشكيلات السياسية التي نشأت منذ قيام الثورة.
وعلى الرغم من أن لافروف أنقذ النظام من عواقب استخدام الكيماوي في الغوطة في أغسطس/ آب 2013 وجنّبه الضربة الدولية، فإن فضله الكبير على النظام يتجلى في حرف مسار الحل السوري من خلع الأسد إلى تثبيته، وبموافقة أميركية.
العربي الجديد