أكرم الأحمد
نقل سوريا من نظام إعلامي سلطوي عمره أكثر من خمسين عامًا لقطاع إعلامي أكثر فاعلية يدعم حرية التعبير والتفكير ويكفل حقوق السوريين بالحصول على المعلومة الصحيحة، ويساهم بالخطط واستراتيجيات الدولة.
يمكن أن نصل لقطاع إعلامي مساهم ببناء الإنسان والمجتمع وفاعل في بناء مؤسسات مختلفة عما عليه بالوقت الراهن من خلال أربع خطوات:
الأولى؛ لابد من وجود مؤسسة شبه مستقلة مرجعيتها السلطات التشريعية تتحمل مهمة تنظيم القطاع ودعمه ورسم السياسات الإعلامية وسنّ القوانين اللازمة لضبط العمل وتنظيم وتطوير القطاع الإعلامي وحماية الحريات والحقوق وتوطين السياسات الإعلامية البناءة، كما تنظم العلاقة بين السلطات ومؤسساتها الحكومية وبين المؤسسات الإعلامية المستقلة الخاصة وغير الربحية، وعلى رأسها فريق من الخبراء في التنظيم والإدارة والصحافة ، يأخذ على عاتقه مهمة التخطيط الاستراتيجي والإشراف على تنفيذ الخطط والإشراف على الامتثال.
الخطوة الثانية؛ تسعى السلطات لتطمئن مؤسسات الإعلام والكتل الإعلامية المستقلة وتساعدها وتشجعها على تشكيل شبكة مستقلة تمامًا تتشكل من المؤسسات الفاعلة في قطاع الإعلام ويكون نواة هذه الشبكة هيئة ميثاق شرف للإعلاميين السوريين التي طورت أدوات كثيرة للتنظيم الذاتي وضبط قطاع الإعلام بالإضافة لرابطة الإعلاميين ورابطة الصحفيين واتحاد الصحفيين بالإضافة للمؤسسات الفاعلة الأخرى ، وتتكون الشبكة من الروابط والاتحادات والهيئات العاملة على تنظيم القطاع الموجودة داخل سوريا وخارجها دون إقصاء لأي جسم ، ويكون للمؤسسات الإعلامية ممثلون في المجلس ، ويتم وضع سياسة واحدة للعضوية في الشبكة مبنية على الدور والتأثير وعدد أعضاء أو موظفي كل مؤسسة.
الخطوة الثالثة؛ تنظيم المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة وتحويل المؤسسات الحكومية من أداة دعاية للحكومة إلى مؤسسة خدمة عامة تُلزم بالحياد وتنوع الآراء ، وتنفذ السياسة الإعلامية الخادمة للمجتمع ، وتلتزم بقواعد التنظيم الذاتي لقطاع الإعلام ، إغلاق أو بيع بعض وسائل الإعلام الحكومية ضعيفة الوصول وذات التكلفة العالية وتصفية أرشيفها ووضع خطط فاعلة لزيادة تأثير وفاعلية المتبقية و إعادة صياغة نظامها الداخلي وسياساتها التحريرية لتصبح مؤسسات فاعلة ومنافسة في القطاع ، ويُشرف على أدائها والتزامها بالمعايير المهنية وأدبيات العمل التي تحددها الهيئة المختصة بمتابعة الامتثال لدى المؤسسات، ويجب الاهتمام لتعزيز الشفافية وفتح الحكومة لمنصات إلكترونية لتوفير البيانات الحكومية، مما يسهل عمل الصحفيين ويزيد من فاعليتهم وتعزيز الشراكة بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية لخلق بيئة إعلامية متكاملة.
الخطوة الرابعة لتحقيق الإلزام القانوني للمؤسسات والأفراد الذي لا يلتزمون بالقواعد المهنية ومبادئ الالتزام الأخلاقية ويتجاوزون الأنظمة والقوانين لابد من إيجاد قسم يتبع للحكومة مكون من قضاة ومحاميين يعملون على معالجة التجاوزات والقضايا التي يصعب على الهيئات الناظمة المستقلة وشبه المستقلة علاجُها، وخاصة القضايا التي تتسبب بالضرر للمجتمع والشخصيات العامة والاعتبارية والأفراد أو عندما تقع مخالفة للقوانين الناظمة والتي توضع بالتعاون بين مكونات القطاع. الاستفادة من تجربة هيئة ميثاق شرف للإعلاميين السوريين الذي تم تأسيسها عام 2015 ، ونفذت أعمال مهمة في التنظيم الذاتي وتعزيز الرقابة الذاتية من خلال تشجيع الجمهور والصحفيين لمراقبة المؤسسات الإعلامية ومراقبة أداء وسائل الإعلام والتأكد من التزامها بمعايير المهنية والمصداقية وخدمة المجتمع وطورت الهيئة نظام للشكاوي عصري.
إن تطبيق هذه الخطوات يمكن أن يسهم بشكل كبير في تحقيق تنظيم ذاتي ناجح للإعلام ، فالتنظيم الذاتي للإعلام بعد الحرب يتطلب تكامل الجهود بين الجهات التشريعية والمؤسسات الإعلامية والمجتمع المدني والقطاع التقني لضمان إعادة بناء بيئة إعلامية تقوم على مبادئ الشفافية المهنية والمساءلة.
ما الذي يجب فعله ؟
يجب أن يتم تحويل الإعلام الرسمي من أداة للكراهية إلى أداة للسلام والبناء ، وهذا يتطلب استراتيجيات متعددة الجوانب، تشمل التشريعات والتدريب والمحتوى الإيجابي واستخدام التكنولوجيا بشكل فاعل والمشاركة المجتمعية وخطط طويلة الأمد لمناصرة السلم والأمن ومؤسسات الدولة والتركيز على المحتوى البنّاء، ولتحقيق ذلك لابد أن يكون أولوية الأجسام التي يمكن تشكيلها.
الإسراع بسن القوانين والأنظمة الداخلية الإعلامية لتواكب التغيرات الرقمية، وتضمن حرية التعبير المسؤولة مع حماية المجتمع من التضليل والمحتوى الضار وتضمين السياسات الإعلامية التي تضعها الهيئة الناظمة للإعلام، رفع الوعي بأهمية الاستثمار وريادة الأعمال، ودعم المزارعين وصغار الصناعيين وتشجع الابتكار والتركز على التاريخ والثقافة المحلية المشتركة والهوية الوطنية.
الاهتمام بسن تشريعات لحظر الخطابات التحريضية وتجريم نشر الكراهية والخطاب الطائفي عبر وسائل الإعلام، مع ضمان حرية التعبير المسؤولة وتجريم استخدام بعض المصطلحات لتجنب إثارة وتعميق الانقسامات، وتضمين الإعلان الدستوري القادم مواد ترسخ حرية التعبير وحرية الصحافة، وتؤكد على استقلالية الإعلام عن السلطة السياسية.
دعم الإعلام المستقل وتشجيع المبادرات الإعلامية المستقلة والمحلية الصغيرة التي تُعلي قيم المهنية والموضوعية وتنظيم برامج تدريبية مكثفة للكوادر الإعلامية في مجالات التحقق من المعلومات والإنتاج الرقمي وأخلاقيات الإعلام، بالإضافة للاستثمار في الابتكار ودمج التقنيات الحديثة مثل الذكاء الصناعي في صناعة المحتوى، وتطوير منصات إعلامية تفاعلية تجذب الشباب وتحديث شبكات البث وتوسيع تغطية الإنترنت وزيادة سرعته.
تعزيز الهوية الوطنية من خلال خطوتين: الأولى دعم إنتاج محتوى إعلامي يعكس ثقافة المجتمع وقيمه، ويُبرز إنجازات الوطن، ويوازن بين الانفتاح على العالم والحفاظ على الخصوصية وإعطاء مساحة أكبر للمحليات والاهتمام بالمحتوى الذي يعزز التماسك الاجتماعي والحث لتسليط الضوء على القواسم المشتركة بين مكونات المجتمع وإبراز قصص التعايش بين الأديان والثقافات والطوائف والتركيز على الإيجابيات من خلال قصص النجاح المجتمعي والتجارب الإنسانية، بدلًا من التركيز على الصراع، والخطوة الثانية هي تمويل مشاريع إعلامية تركز على الهوية المحلية والثقافات المناطقية ليكون لها دور فاعل في نقل صوت مختلف الفئات والمساهمة في المصالحة وتقليل الفجوة المعلوماتية ويساهم في منح مساحة للأصوات المهمشة عبر مشاريع تهدف لتمكين المجتمعات المهمشة من الوصول إلى منصات النشر وتفعيل آليات التواصل ومشاركة تتيح للمواطنين مراقبة ومساءلة وسائل الإعلام، مما يخلق حلقة تفاعلية تعزز من مصداقيتها ويخلق رقابة محلية على مؤسسات الدولة المحلية.
تطوير المناهج التعليمية لتحوي موادًّا حول تحليل النزاعات وخطاب الكراهية والقواعد المهنية والحوار، تنظيم ورش عمل لتعليم الصحفيين مفاهيم مثل “الصحافة الحساسة للنزاع” و”أخلاقيات الصحافة” و”صحافة السلام” ومناصرة السلم الأهلي والأمن والتنمية الاقتصادية والاهتمام بالإنذار المبكر للنزاعات من خلال استخدام تحليل البيانات ووسائل الذكاء الصناعي لاكتشاف المحتوى المحرض، وتتبّع خطاب الكراهية وتصاعد الخطاب السلبي وتطوير تطبيقات أو مواقع تستهدف الشباب بنماذج حوارية، للمساهمة بتعزيز فهم التنوع الديني والعرقي وقبول التنوع وتوظيف الإعلام الرياضي والثقافي والفني لنشر قيم التسامح.
الاهتمام بقسم العلاقات الدولية والتعاون مع منظمات مثل “اليونسكو” أو “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” والمنظمات الدولية لتدريب الكوادر الإعلامية.
ما الذي تعلمناه؟
التوازنُ بين حرية الإعلام والمسؤولية المهنية والمجتمعية مفتاحٌ لنجاح التحول الديمقراطي الذي يطمح له الجميع، ثقافة التسامح والحوار ومناصرة الأمن والنظام ووحدة سوريا ورفع الوعي وتعزيز الهوية الوطنية يجب أن تكون أهداف السياسة الإعلامية الحالية للدولة وللمؤسسات الإعلامية.
تحوّل الإعلام السوري من أداة سلطوية في يد النظام البائد لأداة بناءة يحتاج تظافرَ جهود الجميع ولا يمكن أن تقوم به الدولة بمفردها ولابد من دعم الإعلام المناطقي الذي سيساهم بتقليل الفجوة المعلوماتية ويساهم بتقليل الأخبار الزائفة ويصنع أداة رقابية على المؤسسات المحلية.
تطور الإعلام مرتبط بالإصلاحات السياسية والاقتصادية ومكافحة الفساد وتفكيك الرقابة بحذر من خلال خطة تستمر لعامين ووجود قوانين أو مشاريع قوانين لحماية الصحفيين ، وتنظيم القطاع ضرورة ملحة في المرحلة الأولى.
ما هو المطلوب من الإعلام خلال المرحلة القادمة؟
الاهتمام أكثر ببرامج التوعية والمناصرة والتثقيف والتركيز على أهمية العدالة الاقتصادية والتنمية المستدامة للجميع والتركيز على قصص النجاح في الاقتصاد والسلم الأهلي ومؤسسات الدولة لتكون ملهمة لفئات المجتمع.
العمل لتغيير الصورة النمطية السلبية عن بعض مكونات المجتمع، بالإضافة للمراقبة والنقد البناء بمهنية للسياسات الاقتصادية، والكشف عن التحديات مثل الفساد أو سوء الإدارة، تنشيط برامج الحوار العام وفتح وسائل الإعلام مساحة للنقاش حول القضايا المصيرية، وأتاحت الفرصة للخبراء والجمهور للتعبير عن آرائهم.
ولابد من إعادة النظر في هيكلية المؤسسات والسياسات الداخلية للمؤسسات والسياسات التحريرية ووضع خطط للتطوير تتناسب مع الواقع الجديد.
يواجه الإعلام السوري تحديات جسيمة تتطلب حلولًا متكاملة، بدءًا من بناء البنية التحتية وتأمين التمويل المستدام، مرورًا بتطوير التشريعات الحامية لحرية الصحافة، وصولًا إلى تدريب الكوادر وتعزيز الثقة بمؤسسات الدولة. ورغم الصعوبات، يبقى الإعلام أداةً حيوية في البناء.
أكرم الأحمد مدير المركز الصحفي السوري