ننتقل من مكان لآخر و ربما يكون الانتقال من أجل العمل أو ربما يكون للبحث عن موارد أفضل و يكون أيضاً بشكل قسري، حيث نكون مجبرين على ترك المكان الذي اعتدنا أن نمضي فيه أيامنا بحلوها ومرّها و يصبح كل ركن من أركان هذا المكان جزءاً مرتبطاً بذاكرتنا وذكرياتنا وينهك الشوق كاهلنا والحنين يطفو في القلب ويمل الصبر منا على طول الإنتظار.
هذا حال الكثيرين ممن أجبرتهم وحشية نظام الأسد على ترك بيوتهم وقراهم للبحث عن مكان آمن لأطفالهم وأفراد أسرهم ولا يختلف الحال عن حال الأستاذ “علي” الأربعيني، بشعره الذي غطاه البياض وتجاعيد الشوق التي خطت طريقها على جبينه وطوله الممشوق كمنارة البحر، وهو ابن الساحل القريب من البحر الذي ينحدر من بلدة “سلمى” في ريف اللاذقية بطبيعتها الخلابة.
بصوته المضطرب الحزين و الدافئ في آن معاً، وشكله المرتب بقميص يمزج لون البحر والسماء وبنطاله حالك السواد، كسواد الليل الشتوي يحكي عن حبيبته “سلمى” تلك الحبيبة الساكنة وسط ضجيج القذائف وصخب البارود والتي اشتاقها واشتاق دروبها و ربيعها الأخضر الصافي الذي لا يشوبه أي يبس ” سلمى ليست مجرد اسم لمكان عشت فيه طفولتي وشبابي، سلمى هي حبيبة عشقتها مذ ولدت على ثراها و بين أشجارها، كطائر يداعب نسائمها العليلة”.
نظر إليّ نظرة العاشق الخجول عند وصف حبيبته وسألني باستحياء “هل شاهدت فيلم رسائل شفهية للفنان أسعد فضة والمخرج عبد اللطيف عبد الحميد !!؟” أجبته ولم يخطر ببالي سوى الإسم العام للفيلم دون الغوص في تفاصيله الدقيقة “نعم أعرفه، لماذا!!؟
” فأجابني وقد لمعت عيناه الخضراوتان خلف نظارته الطبية ذات الإطار الذهبي ” حبي لسلمى هذه يفوق حبّ كل من إسماعيل وغسان لسلمى في هذا الفيلم الذي لطالما أحب مشاهدته لأنّ اسم غاليتي سلمى أساسياً فيه، ولأن الفيلم يذكرني بأيام طفولتي في مناطق قريبة جداً للمنطقة التي ولدت فيها، وتلك الشجرة العملاقة المتشبثة بجانب البيت كواحد من المحاربين في الأساطير اليونانية القديمة وقد حفرت على جذعها مئات علامات الذكريات”.
“رغم طول السنين إلاّ أنني أشعر أنها مرّت كلمح البصر قبيل اندلاع الثورة وهبوب غيوم الحقد الأسدي على البلد برمّته وبعد أن كانت موقعاً يستقطب السيّاح، أصبحت تئن أنين الموجوع المصاب”، و بالنظر إلى الأفق البعيد يكمل الأستاذ علي ” لا زلت أذكر ذلك اليوم في الخامس والعشرين من تموز / يوليو عام 2013 حين لم يعد أمامنا إلاّ مغادرة الأرض ومفارقة الروح إلى المجهول”.
لجأت وعائلتي إلى تركيا وتمّ نقلنا بحافلات للجيش التركي إلى مخيم “سليمان شاه” في الجنوب من تركيا بمحاذاة مدينة الرقة السورية، و كانت هذه أطول رحلة عشتها في تاريخ حياتي رغم سفري لأبعد من ذلك من قبل ولكن الفرق أنّ هذه رحلة جسد قد فارق الروح، هناك خاف الأفق البعيد.
أخذ الأستاذ علي قسطاً من الرّاحة كغواص يخرج للسطح ليستنشق بعض الأوكسجين قبل الغوص مجدداً وأكمل ” رغم قساوة الحياة في المخيم إلاّ أن شعوري كان معلقاً بعدّ الساعات والأيام على أمل العودة التي باتت تبتعد يوماً بعد يوم عن ذلك الحلم الجميل، فقد أجبرنا على النزوح بعد النزوح، ففي الحادي عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر صدر قرار بإخلاء المخيم الذي نقطن فيه و توجب عليّ اختيار مدينة أسكن فيها غريباً مكسور الخاطر والجناح “.
وقع اختياري على مدينة بالقرب من عنتاب يعانقها نهر الفرات و يحمل معه نسائم سورية التي أشتاقها و الأجمل من هذا أن فيها بعض شجر الصفصاف، فقد اشتقت لرؤية الصفصاف بعد طول الغياب، حملت حقائبي و اتجهت إلى مدينة “بريجيك” على نهر الفرات ما بين الجبل والنهر، أعمل فيها وأمشي كلّ مساء على حافة نهر الفرات علّه يوصل سلامي إلى سورية الحبيبة و أحادث شجرات الصفاف هنا علّها تنقل أشواقي إلى صفصافتي هناك.
بقلم : محمد المعري
المركز الصحفي السوري