“أجولُ في أرجاء المخيم مع ساعات المغيبِ من كل يوم، ذلك الوقت الذي تضيقُ صدريَ به إذ يمتلئ الفؤاد بالغصةِ والحنينِ لبلدتي كفرسجنة المحتلةِ منذ أشهر طويلة، وها هي قوات النظام تكمل عامها الثاني بالسيطرة عليها ولا جديد، يومياً أخرج لأتنفس رياح الشوق القادمة من الجنوب”
يعيشُ أبو عبدالله الساعةَ كأنها عام والعامَ كأنه دهر بعدما هجرتهُ قوات النظام من أحب البقاعِ على قلبه بلدته ومنزلهُ وأرضه الزراعية إلى مخيماتٍ لا يملك فيها حتى الأرض التي تقام عليها الخيمة لكنه يعيش على أمل العودة بمشاعر مختلطة ومتضاربة منها ما يحمل أملاً بالعودة وأخرى حنيناً وحسرةً وقهر على ما يعيشهُ مع آلاف المهجرين.
يحكي أبو عبدالله وفي عينيهِ دمعاتٌ يحاول حبسها لكنها أبت إلا أن تسيل شوقاً وحزناً على ما فات “كنا نعيشُ حياةً رغيدة قبل أن يحول النزوح عيشنا إلى كابوس بلدتنا من القرى التي يبكى عليها لما يحملهُ شعبها من صفاتٍ حميدة من الطيب والكرم فكنا أخوةً في السراء والضراء، ولما تتميز فيه أرضها من طبيعة خلابة وهواء عليل احتضنت في منازلها مئات العوائل النازحة.
يتحسر أبو عبدالله على ما كان يملكهُ في بلدته كفرسجنة من أرض زراعية ومنزل ومحلات تجارية ثم اليوم لا يتعدى منزله مساحة العشرين متراً “بعدما كنت أعيش في قريتي بمنزل يحتوي أربعة غرف وحديقة منزلية وأرض زراعية كانت تجملها أشجار التين والزيتون تكفينا من خيراتها طوال العام عدا عن محلات أربعة أقوم بتأجيرها دورياً أصبحت اليوم ومثلي عشرات الآلاف بدون أملاك ولا نعرف هل ستعود لنا تلك العقارات مجدداً أم لا”
لحظات عصيبة عاشتها البلدة قبل التهجير
منذ أن بدأت قوات النظام الحملة العسكرية في عام 2019 على ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي كثفت قوات النظام قصفها على بلدة كفرسجنة ذات الموقع الاستراتيجي الهام نظراً لموقعها الجغرافي المرتفع والذي يطل على مساحات واسعة وكلف ذلك الأمر البلدة خسائر بشرية ومادية فادحة إذ لقي العشرات من ابنائها مصرعهم على ثراها وتدمرت أكثر من 70% من منازل البلدة.
عدنان الخضر أحد المهجرين قسراً عن بلدته كفرسجنة إلى تركيا بعدما أجبر مكرهاً على النزوح قبل سيطرة النظام على البلدة بأيام ورغم كل ما لاقته البلدة من قصف مرير إلا أنه لم يخرج وظل ثابتاً هناك في منزلهِ حالهُ حال عدد آخر من الشبان فضلوا البقاء في البلدة التي عاشوا فيها أيام عمرهم على النزوح عنها.
كان يعمل عدنان مع شقيقهِ في محلاتهم التجارية التي حولوا إحداها لصالة انترنت فكانت من أولى صالات النت في البلدة والتي لم يغلقوها حتى الساعات الأخيرة حرصاً منهم على تأمين التواصل بين الشبان الموجودين في البلدة مع ذويهم خارجاً وفي إحدى الأيام العصيبة التي عاشتها البلدة من قصف عنيف ومتواصل استشهد “محمود” شقيق عدنان الأكبر و “طارق سعد الدين” جارهم وصديقهم الودود.
يروي عدنان تلك اللحظات العصيبة التي عاشوها ساعات استشهاد الشابين أثناء عملهما في قطاف التين من أرضهم الزراعية “ذهبنا أنا ومحمود وطارق في الصباح الباكر إلى الأرض الزراعية لجني محصول التين منها وبعد الانتهاء عدت إلى البيت أمامهم على أن يلحقوا بي لكنهم تأخروا هناك لساعات وقلقي ومخاوفي ازدادت مع طول فترة غيابهم وعدم عودتهما”
يزداد القلقُ في قلب عدنان تمر الساعات ويحل الليل ولم يعودا “كانت ليلة طويلة جداً انتظرت الصباح بفارغ الصبر ذهبت إلى الأرض الزراعية بعد طلوع الشمس وكانت القذائف كالمطر استغرق الطريق معي أكثر من ساعتين من شدة القصف ومع وصولي كانت الصدمة طارق ومحمود يتكئون على بعضهما وقد فارقا الحياة ودمائهما تروي الأرض استشهدا وحيدين هنا عندما حاولا تأمين رزقهما والبحث عن الحياة”
“كان الطريق إلى الأرض الزراعية مرصوداً عدا عن طائرات الاستطلاع التي لا تفارق الأجواء من المستحيل أن تصل سيارة إلى هنا لنستطيع إجلائهما هرعت إلى أحد الملاجئ الذي يتواجد فيه شبان من القرية لنحاول أن نسحب جثث الشهيدين ونخرجهما من القرية حاولنا ذلك وغامرنا بعدما رصدتنا قوات النظام وبدأت بقصف المنطقة بشكل عنيف بالقذائف وعلى الدراجات النارية نقلنا جثث الشهداء إلى مكان أكثر أمناً ثم إلى الشمال السوري حيث دفنوا هناك وحرموا حتى من أن يدفنوا في تراب القرية الذين عاشوا واستشهدوا على ثراه”
ولليوم يعيش أبناء البلدة النازحين في مخيمات وبلدات الشمال السوري ودول اللجوء على أمل العودة وذكريات جميلة مرت حالهم كحال مئات آلاف النازحين قهراً وقسراً عن بلداتهم ومدنهم ويتأملون أن يعود الحال بهم إلى ما كانوا عليه آمنين مطمئنين في منازل بنوها بعد تعب سنين طويلة وفقدوها بلحظة.
قصّة خبرية بقلم: إبراهيم الخطيب
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع