يجلس العم “أحمد” مكتوف الأيادي، وأمامه كيس خضرة نصفها تعفن، يترقب أوجه المارة بعيون ذابلة أهلكها الدهر، وأحيانا ينادي على أحدهم “اشتر الخضرة إنها بثمن بخس…” منهم من يلوح بابتسامة تفيد “يسر الله أمرك ” ومنهم من يرميه بنظرات تحمل بين الغضب والسخرية. هنا في سوق الجملة للخضر والفواكه بمدينة تطوان، يقضي العم “أحمد” نصف يومه، ذاك الطاعن في السن، الخائرة قواه، المرتجفة يداه، يأتي هنا كل صباح يجمع ما تبقى من خضر وفواكه خلف التجار على أن يبيعها هناك، دفعته عزة نفسه إلى ذلك بدل أن يمد يده أو يثير شفقتهم، بعدما فقد اهتمام أبناءه وذهب حنينهم على الأب أدراج الرياح ،وتركوا صدرهم الحنون، الذي علمهم الخطوة والحرف والحياة…. هنا يواجه مرارة الحياة والواجب هو أن يكون في بيته تحت جناح أولاده يحتمي فيهم, ويتذوق حلاوة الاهتمام الذي يتوق إليه قلبه بين الحين والآخر. فهل كان ذنبه؟
يظل الآباء سنين طوال يشتغلون لرعاية أبنائهم وتوفير حاجياتهم، أملا أن يتلقون الرعاية نفسها يوم يشيب الرأس, ويعود الشباب أدراجه، بيد أن الحال ينقلب على عقبيه في كثير من الأحيان، فها هو العم “أحمد” يتخبط هنا رغبة في جمع قوت يومه بعد أن اصطدم بجفاء قلوب الأبناء، معاناة وخيبة آمال تلخصها تقاسيم وجهه التي خطها الزمان الذي كان الشاهد على ذلك، وإنك لتقف مذعورا أمام المشهد.
في حوار مع العم أحمد سألته قائلة:《أين الأبناء يا عم ؟؟ ، أنك متعب هنا وحاجتك للراحة ملحة》
أجابني قائلا:《 لا بد أن أفعل هذا فأنا بحاجة إليه, وأولادي الذكور مع زوجاتهم》
أردفت قائلة: 《وهل يوجد لك معيل غيرهم ؟》
رد قائلا:《بلى؛ لدي ابنة تشتغل في أحد المناطق الصناعية وهي من تتحمل مسؤولية الكراء وأغلب المصاريف كما أن زوجتي مريضة جدا، والحال صعب يا ابنتي》
لم يكن الحال سهل على العم “أحمد” فقد تشتت أحلامه، وفقد الأمل في أبناءه بعدما ضربوا جهده وتعبه عليهم عرض الحائط. هممت بالمغادرة ولاح العم بابتسامة جميلة قائلا “اشتر مني هذه الخضر” ففعلت وغادرت المكان وقد نال مني الحزن, حزن على ما يؤول إليه هؤلاء الآباء في مجتمعاتنا الذي أغرق بالماديات وجفت فيه القيم..
وتظل ظاهرة التخلي على المسنين وعقوقهم في تزايد رغم أنه طفيف، وتبقى سيل من الأسئلة المعلقة على مآل هذه الشريحة. فهل الخطاب الأخلاقي والوازع الديني كافيا لحل المشكلة؟ أم على الجهات المعنية إيجاد حلول بديلة لرعاية فئة لم تعد تقوى على رعاية نفسها؟
صليحة إضبيّب/المركز الصحفي السوري