تركتُ قلبي هناك، مخبأً بين أغصان شجرةِ الليمونِ التي كنا نقطفُ منها الظلَ والرائحةَ العطرة، بتلك الكلمات يصف “إبراهيم” حنينه لأرضه، في رحلةَ هجرته من بلدته الواقعةِ في ريفِ إدلبَ الجنوبي.
في الخامسِ من أيار، من العام 2018، كنا نجلس تحت عريشةِ العنب، نحتسي شرابَ الورد، كنت أنا وأمي وأخي، كان الجوُ مفعماً بالحب والطمأنينة، لكن لم يطل ذلك الهدوء، سرعانَ ما أقلقَ راحتنا وجلستنا الجميلة هديرُ الطيرانِ المروحي، كان صوتها عالِ وثقيل، ربما تحملُ حاويةً متفجرة!!
أستمعُ إلى صوتِ أحدِ المراصدِ ينادى ملئ حنجرته، ‘سجنة انتباه’ يا الله إلى أين سنذهب؟ وإل أين سنتلجئ؟
هرعنا الى المطبخ، حيث كان بنظر والدتي مكانٌ آمن، ربما لأن خزان الماء فوقه في سقيفة المنزل.
دخلنا نحمل قلوبنا وأرواحنا على أكفنا، بلغ قلبي أن يصلَ حنجرتي!!
يعاودُ المرصدُ صيحاته ” التنفيذ بالجو خليكن منتبهين”.
هنا كانت أصعب لحظات حياتي، كان الجو هادئاً في معظم القرية، إلى أن بدأ هدير الحاوية يسمع، واخترق صوتها المرعب كل ذاك الهدوء، كان صوتها وحدهُ كفيلاً بقتلي!!
بدأنا بالصراخ، ياالله!
اقتربنا من بعضنا وحضنت والدتي بشدة، حتى لحظة الانفجار، الغبار يملأ المكان، السقف يسقط علينا غبارا وترابا، أحسست أن ثقل العالم كله في رأسي بعد ذلك الانفجار!!،
يصرخ أخي” إنها قريبةٌ جداً، أعتقد أنها سقطت على منزل جارنا أبو محمد، دعونا نذهب لنرى ما حصل!!”
خرجنا نركض علّنا نكونُ سبباً في انقاذ أحد الأرواح!!
لكن لا جدوى، كان المنزلُ مطبقاً على جارنا أبو محمد، وبعد جهدٍ استطاعت فرق الدفاع المدنيِّ انتشالِ الضحايا، استشهد أبو محمد مع أحد أولاده….
أمي تقولُ لوالدي “اليومَ أبو محمد، ربما نحن غداً، أو بعد قليل!!
علينا الرحيل بأسرع وقت، فنحن أصبحنا في ساحةِ المعركة…”
“الهجرةُ نحو المجهول”
“إلى أين سنذهب!! لا نملك وجهةً أو نعرف أحد يستطيع استقبالنا لوقتٍ لا يعلمه إلا الله، ومع استمرار الهجرة بات الازدحام في الشمال السوري لا يطاق!!” يقول أبي.
“أياً كان، سنذهب، لا نريد أن نصبحَ أحد ضحايا تلك القذائف والصواريخِ العمياء” ترد عليه أمي.
..قمنا بلملمة أغراضنا بسرعة، ما خف وزنه وغلا ثمنه، تركنا أثاثَ المنزل على أمل الرجوع، أبقيت ذكرياتي وأحلامي هناك، دفنت بسمتي أيضاً تحت شجرة الليمونِ ذاتِها..
– سنذهب لمخيمات اللجوء، بدأنا بالبحث عن سيارةٍ تقلنا لهناك، فالقريةُ باتت خاوية، ولم نكن نملك سيارةً لنذهب بها، بدأت اتصالاتنا مع أي شخص يملكها، وبعد عناء، استطعنا أن نجد من يقلنا لمخيمات اللجوء، لكن بشروط! (سنسير في آخر الليل، على ضوء القمر، ولا نحمل سوى بعض الأغراض، وأريد مبلغ خمسون ألفاً لتلك العملية).
طبعاً وافقنا نحن، كانت الرحلة ليلية على ضوء القمر، لم يكن هناك صوت أو حركة في كل القرية، كان جو مرعب فعلاً .
– مع شروق الشمس وصلنا مخيمات النزوح، استقبلتنا هناك أوجه الناس الحالمة بالعودة، التي أكلها التعب والقهر والحرمان،
ذهبنا بدون أي ترتيب، نزلنا تحت شجرة زيتون، جلسنا ننتظر أحداً يرأف بحالنا، قابلنا مدير المخيم وبعد جهد وجدال قام بتسليمنا تلك الخيمة،
بنينا خيمتنا التي كانت مساحتها لا تتجاوز الأربع أمتار، كانت تلك الخيمة منزلنا الجديد، فهي الحمامُ والمطبخُ وغرفةُ الضيوف والقعدة، جلسنا فيها ونحن من أعماقنا نقول أننا لن نطيل الجلسة، شهر أو شهرين وسنعود .
مضت سنتان، غدا، بعد أسبوع، شهر، سنرجع و ونعيد إعمار منزلنا الذي غالباً ما دمره الاحتلالُ بعد سيطرته على القرية..
وبقينا نعيشُ على ذات الحلم.
لم أترك أحلامي تتبعثر في مهب الرياح، بدأتُ من جديد، دخلتُ الجامعة، كنت أدرس بشغفٍ واهتمام، لأني أريد تحقيق أحلامي، رغم أني كنت أعاني من طولِ المسافة، وعناءِ السفر وتكاليفه، كنت أخرج من الساعة السادسة صباحاً وأعودُ مع غروبِ الشمسِ إلى المنزل(الخيمة)، لكنني كنت سعيداً بذلك، أحببت أن يصل طموحي عنان السماء رغم خيمتي الضيقة.
أما عن الخيمة فأصبحت اثنتين ونأسس للثالثة، وشجرة الليمون اللي كانت في القرية جلبت منها عوداً وزرعته بجانبِ الخيمة وأصبح عمرها سنتين، أصبحت الشجرة أطول مني، ولا يزال قلبي هناك ..
إبراهيم الخطيب../المركز الصحفي السوري