لن تشعر بلذة الوصول ما دمتَ لم تتعب حتى تصل، هذه كلمات راما التي تبثها على من يجالسها، تبثُّ فيك روح الحماس..
فتاةٌ عشرينية.. لطيفة الحضور.. بريئة الملامح.. لم تنزع الأيام القاسية منها روح الدعابة وحب التفوق.
على أطراف المدينة في بيتٍ بسيط وهادئ، بين أشجار الزيتون، عاشت راما طفولةً مدللة مع إخوتها الثلاثة، وكانت بِكرُ والديها.
يعمل والدها بائعاً لجميع أصناف القهوة في محلٍ بوسطِ المدينة حتى بداية عام ٢٠١٣ قبل أن يهدم محلّه في القصف الجنوني على المدينة حيثُ نزحت العائلة من جحيمٍ طال كل أنحاء المدينة..
استقرّت راما مع عائلتها في مدينة الأتارب وعمل والدها تاجراً مابين سوريا وتركيا.. مالبث أن طال القصف مدينة الأتارب فاضطروا إلى البحث عن مكان ٍ ٱمنٍ جديد، ووصل بهم المطاف إلى مخيمات سرمدا، حيثُ سكنت العائلة هناك وتمنّت راما لو ينتهي ذاك الترحال..
أحبّت راما المخيم ،أحبّت المدرسة والمعلمين والجيران.. لم تنفر من الجلوس بين جدران ذاك المنزل الحديدي ، ولم يعقها طول طريق المدرسة وضيق الحال والمكان على السعي للتفوق..
وفي ليلةٍ ربيعيةٍ بامتياز من ليالي أيار، جلس الجميع لتناول العشاء وبدأت راما تسرد أحداث تلك الليلة..
كان يشكو والدي من ألمٍ في ظهره، أدار وجهه نحو أمي وقال: “بكرا إذا الله راد رايحين أنا وأخي أبو أحمد نزور أختي سارة ويمكن نضل نهارين تلاتة”
تذكُر راما كيف ردت على والدها بلهفةٍ: “أمانة بلا بابا ضهرك عم يوجعك والطريق صعب”
لم أكن أحب والدي حباً عادياً كان بطلي وسندي ومدللي..
صباحاً ذهب والدي وعمي لزيارة عمتي التي تسكن في سهل الغاب، ودّعتهما وذهبتُ إلى المدرسة
بعد طول انتظار استضافت الحاجّة أم عبيد أخويها وابنتها المتزوجة وأحفادها..
كان بيت أم عبيد يضج حباً و بهجةً وأحاديث.. كما يذكر جيرانها، لم ننم لمنتصف الليل سهرنا على ضحكاتهم وأحاديثهم التي ملأت المكان أُلفةً..
وفي صباح الثلاثاء الموافق 5 أيار 2015 قصفت طائرة روسية برميلاً فوق بيت عمتي أخرست الأنفاس.. لم يبقَ صوتٌ هناك، هدأ المكان الذي ضجّ قبل ساعاتٍ بالأصوات والأحاديث.. تُكملُ راما: كنت أدرسُ للشهادة الاعدادية بحبٍ وشغف بينما طُرقَ باب المنزل بشدة.. فتحتُ لأجدَ جمعاً من الناس أمام الباب.. وهمهمات تعلو وتنخفض..
فهمت راما أن حدثاً جللاً قد وقع، عيون النّاس تكلمت قبل ألسنتهم..
صرخت جارتها: “مات الجميع..مات الجميع..”
تروي راما لحظة سماعها الخبر.. شعرتُ أنني أقف في رمالٍ متحركة تسحبني، تخدّرت قدماي وبكيتُ دون دموع..لكن أبي نجا، كيف نجا!!!
إنه أمر الله سبحانه..
لم يسلم مكان في جسد والدي، نُقلَ إلى مشفى باب الهوى إلى العناية المركزة قضى شهراً هناك ثم انتقل بسيارة الإسعاف إلى المشافي التركية للعلاج.. شهوراً طويلة أمضيناها بعد انتقلنا الى مخيم أطمة ٱخر محطة لعائلتي المشردة المتعبة
كنت أسمعُ أنين أمي وبكائها في كل ليلة تناجي الله أن يسلم أبي.
عادَ والدي إلى بيتنا في المخيم لكن العجز طال جسده الذي كان جسراً لي ولإخوتي.
ضاق الحال على أعزاء القوم.. ذهبَ المال وأُنهكَ الجسد.. ولكن الشغف والحلم نضجا بنيران الحرب والٱوجاع أكثر.
في مدرسةِ المخيم درست راما الثانوية وتميزت بين قريناتها وحصلت على علاماتٍ جيدة.. سجلت في جامعة النهضة للعلوم الصحية، وتدرس الآن في السنة الثانية..
تحمل أعباء أقساط الجامعة مع والديها اللذان يبيعان القهوة في منزلهما ويستدينان لكي لا تشعر راما بالنقص حتّى تُكمل مسيرتها في التعليم..
تحكي راما بثقةٍ وايجابية: لم أُخلق عبثاً، سٱخذ بثأري وأجعل عيونَ والديَّ تفرح بعد حزن.. لنا نصيبٌ أن نعيش وأن نكمل الطريق.. لنا نصيب بالفرح قدرما أصابنا من الأوجاع..
قصة خبرية/ ضحى خابور
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع