كانت الخالة أم محمد من الجميلات جداً في شبابها، بوجهها الدائري وعيونها الكحيلة، ببشرتها البيضاء وقامتها الطويلة وجسمها
النحيل، منزلها من أجمل البيوت وأكثرها بساطة في قريتها، تزينه العرائش وداليات العنب، تعيش فيه أربع أخوات حوريات
خارقات الحسن، طيبات المنبت، وهنيات العيش، كانت حياتها مليئة بالسعادة والسرور، لكن الأقدار كانت تخبئ لها شيئاً آخر.
روت لي الخالة أم محمد تفاصيل رحلتها الشاقة والطويلة وهي تفرك في عينيها التي لم تعد ترى بهما، تقول الخالة: عشت أجمل أيام حياتي عندما كنت في قريتي في فترة الطفولة والمراهقة، لكن تلك البضع سنتي مترات التي زادت من طولي قليلا قد قتلت كل ذلك، فأصبح هم والدي الأول والأخير تزويجي وأخواتي لأي خاطب.
وتضيف الخالة وهي تضحك بحسرة: تقدم لخطبتي ابن جيراننا ولأنني وافقت انهال علي والدي بالضرب وأصر على تزويجي لغريب أثر ذلك، وفعلاً جاء اليوم الأسود ..(تسكت الخالة قليلا) ..الحمد لله على كل حال.
ثم تكمل: تقدم لخطبتي رجل لا يشبه كل الرجال، قصير من ذوي الاحتياج الخاص، كان في ظهره نتوء، كسنم الجمل على ظهره ظاهرة جداً، وكلما رفضته زاد إصرار والدي على تزويجي به، كان لديه تعصبات قديمة بأن يزوج الفتاة بمن لا تريد أما غير ذلك، فهو أمر غير أخلاقي باعتقاده.
قرية الخالة أم محمد هي إحدى قرى جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي، حيث كانت تعيش عائلتها، وانتقلت بعد زواجها إلى مدينة حماة، افتقدت أم محمد لقريتها التي كانت تضرب المثل بها بالجمال، فيقال: فلانة جميلة جداً مثل مريم “اسم الخالة” فلانة غاية في الحسن وكأنها مريم.
تقول: زوجني والدي منذ نعومة أظافري لرجل معاق ويكبرني سناً، لتبدأ قصة معاناتي من لحظتها، لم يقتصر على كونه معاقاً جسدياً فقط، زوجي العزيز لقد كان يعاني من خلل في عقله، لم يكن على ما يرام، أحد المرات، باع أرضاً من أجل أن يشتري حلوى “عوامة”، أكلته المفضلة، لم يمتلك يوما حس المسؤولية أو التدبير أو الرشد.
وتضيف: وبمرور السنين والأيام صار عندي عشرة أولاد، كنت لهم الأب والأم، فكان من مسؤوليتي أن أطعمهم وألبسهم، زوجي لا يستطيع العمل بسبب إعاقته، معظم أولادي كأبيهم بلا رشد أو رزانة، بلا عقل!
عانيت منهم كثيراً جداً، كنت أعمل خارج المنزل وداخله لأعيلهم حتى أصبحوا بالغين ولكن لم يشعروا يوماً بحس المسؤولية.
وتتنهد الخالة أثناء حديثها كل برهة، وهي تروي لي معاناتها بغصة وحرقة، فقد فتحت لي جراحها في اليوم العالمي للمسنين الذي يصادف اليوم في 31 من أيلول، بعد أن قضت معظم رحلة عمرها في الشقاء.
وتصفُ لي مرض زوجها الأخير، والذي توفي فيه، حيث أصيب بسرطان في المري، كانت الخالة تطبخ له السميد لأنه لم يعد يستطيع تناول أي طعام عادي، كانت تحفظ مواعيد دوائه وتسافر به كل شهر إلى الشام لتلقي العلاج فتقول:
كان شغلي الشاغل زوجي وأولادي حتى نسيت نفسي، عانيت من آلام جسدية كنت أتجاهلها، حتى طفح على جلدي بقع بحجم الكف مصحوبة بحكة وألم شديد، ذهبت لعدة أطباء لم يعرف أحد ما علتي، أحد الأطباء وصف لي الكي بالنار وأخذ بسيخ حديدي وأخذ يكوي، لا أستطيع أن أصف ألمي حينها، لكن المزعج بالأمر أن كل ذلك دون جدوى، ولم يكن العلاج أبداً.
وصلت الخالة بعدها إلى طبيب بروفيسور وعالم في دمشق شخّص لها علتها، كانت الخالة تعاني من مرض نادر يسمى “زنار النار” ليس له إلا دواء واحد في كل سوريا، ولكنه لم يكن سوى مسكن مؤقت لحالة الخالة التي لا تزال تعاني من مرضها هذا حتى هذا اليوم.
وتضيف الخالة: توفي زوجي متأثراً بمرضه بعد عدة أشهر، كان في السبعين من عمره، ألقيت أصابع الاتهام نحوي من قبل عائلته، قالوا لي أنني السبب في موته وأنني لم أتابع علاجه باهتمام، حتى تصدع قلبي ورأسي من الأقاويل لعدة سنوات بعد وفاته، لم أعرف طعم الراحة أبداً.
وتضيف: بدأت الثورة والأحداث والمظاهرات في سوريا، بدأت تنهال الصواريخ من فوقنا من كل فج وصوب، كان يغمى علي من الخوف كل ما وقعت قذيفة بالقرب منا، لم أستطع الصمود، ودخلت مرحلة عذاب وقهر جديدة، الرحيل عن الديار، والنزوح والهجرة.
كانت أول وجهة نزوح للخالة أم محمد في عام ٢٠١٣هي قريتها موطن الحب والطفولة، حيث الأحباب والأقارب، لكن وبينما كانت مشغولة بحياتها التعيسة ومع مرور الزمن لم يبق شيء كما كان في قريتها، أشجار الطريق لم تعد موجودة، حتى الأبنية القديمة البسيطة تحولت لعمارات مكسوة بالحجر، وبيوت شامخة، كل الأقارب هاجروا والجيران رحلوا.
لم تمكث في القرية بضعة أشهر حتى نالها القصف من كل جانب، الأمر الذي أجبرها على الرحيل ثانية، لتسكن في خيمة من البلاستيك لا تقي من حر ولا من برد، في قرية أطمة على الحدود السورية التركية، أمضت فيها أكثر من أربع سنوات.
تقول: جلسنا في خيمتين أنا وأولادي، كنا نقتل أفعى أو اثنتين في الأسبوع الواحد في فصل الصيف، عدا عن العقارب والحشرات، وفي الشتاء نغوص في السيول والطين، حمامات مشتركة، حياة مهينة للإنسان، أكبر من أن تتحملها عجوز مثلي.
وأضافت: انتقل عدة من أبنائي إلى تركيا واستقروا هناك فقررت اللحاق بهم مجبرة، للفرار من ضيق الحياة بعد ما كنت من أشد المتمسكين بسوريا وبريحة البلاد وتربة الديار.
انتقلت الحاجة أم محمد إلى تركيا لتعيش في مخيمات السوريين، لم تحظ الخالة بمنزل صالح للعيش كما يجب، لكنها فضلت ما يسمى بالكرفانة وهي بيت صغير من حديد أعدته تركيا للنازحين السوريين في مخيمات مخصصة على العيش في الخيام البائسة تحت الحرب التي لا ترحم إنسانا .
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/603403098034883
تعيش اليوم الخالة في عقدها الثامن، غير قادرة على الرؤية بعينيها التي أتعبتها المآسي والبكاء والحزن، هكذا هو حال الكثير من المسنين السوريين الذين بقوا في البلاد رغم استحالة العيش أو هاجروا إلى بلاد اللجوء.
قصة خبرية/ نور زيدان