بدأت قصتي عند سن العاشرة من التفوق الدراسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة وخصوصاً بمدينة بيت لحم ..
أنا من أم يهودية وأب مسلم ، تزوج أبي من أمي رغم اختلاف الأديان والثقافات ، فكانت أولى العقبات التي واجهتهما هي محاربة عائلة أمي لأبي بسبب خروجها عن أبناء طائفتها ودينها ، لكنها كانت تعلم ما قد يحيط بها من مشاكل و مجزافات من الزواج برجل مسلم يحب القراءة والكتابة والمطالعة .
نشأت في منزلٍ صغير في بيت لحم وكانت أمي تروي لي أنها عندما حملت بي كانت متطلعة للقراءة ومتابعة برامج التلفاز العلمية ، لأجلي أنا ، كما قرأت أنه في فترة يمكن أن ينمو عقلي وأن أكون نابغاً .
لطالما أرادت أن أكون مثقفاً محباً للعلم والمعرفة ، تعلمت في مدرسة تضم اليهود والمسلمين وبدأت حينها ثورة العلم والكتابة حتى أصبحت ذلك الثائر الذي حفظ التوراة والإنجيل والقرآن الكريم والكتب العلمية والأدبية والفكرية والسياسية ..، وبعد مسيرة حافلة من العلم تخرجت من جامعة الأغواط وتحصلت على المركز الأول فيها كطالب للعلوم السياسية باللغة الفرنسية، لأبدأ مسيرة الدفاع عن حقوق الفلسطينيين و ثورات الربيع العربي بجمل بسيطة في كتاباتي الخاصة ، مما عرضني ذلك لعدة تهديدات متنوعة .
لطالما كانت تراودني أسئلة كثيرة لماذا في وقتنا الحاضر انعدم المثقفين والكتاب العرب ؟!
لماذا لم يعد الجمهور يتطلع لتلك الكتب المؤلفة من عباقرة وكُتاب ينتظرونهم لأجل إصدار كتبهم وطرحها في الأسواق ؟!
سياسة التهميش التي نعيشها اليوم وفي تطور التكنولوجيا الحديثة جعلت الكتب مواد رخيصة غير قابلة للتطور، نظراً لوجود الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، فلماذا نكتب اليوم ولمن؟ وهل بقي للكتابة معنى في زمن اللامعنى الذي أرادته الحداثة؟ ألا يمكن الحديث عن الموت التدريجي للمثقف؟ وما هي درجة حضوره في إعادة تشكيل وبناء الوعي الجماهيري اليوم؟ وهل يُمَكنه برجه العاجي من الاطلاع بدوره الحضاري في التنمية البشرية؟ ألم يغدو المثقف، اليوم، شيئا من الماضي؟
إن المثقف ابتدأ يلازمه الوعي المخالف ؛ فهو يهَدم لأجل البناء الحسن، ويرمم الاعوجاج السياسي من خلال وعيه بأمور السياسة والثقافة معا، مما يجعله محركا أساسيا في التنمية المستدامة وفاعلا فيها لا منفعلا، قادرا على التغيير نحو الأفضل.
وعادة ما يقتضي الإطار المرجعي لمفهوم المثقف بجعل الثقافي معارضا ومناوئا للسياسي ومبينا لعثراته ونزواته وتسلطه، مما يجعلنا في حيرة ونحن ننعت كثيرا منا بهذه السمة، في وقت أصبح فيه القول ليس بأيدي “المثقفين”.
لقد بات المثقف شيئا من الماضي فاقدا لهويته وخصوصيته، حيث يذوب في السياسي، ويمسي تابعا لا متبوعا، سامعا لا قائلا، منقودا لا منتقدا، غافلا لا مبينا؛ لقد سُيِسَتِ الثقافة وابْتُلعت باعتبارها سلطوية.
فتعرضي للاعتقال بالأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل ما يسمى المقاومة الفلسطينية في آخر زيارة لي ،كان سبباً كافياً لأن أكون جمراً تحرق كل مستبدٍ أراد تدمير شعبه وإخضاعهم لسياسته الجائرة.
إن ما ذكرته يجعلني أعيد النظر في مفهوم المثقف، مادام لم يعد ضمن النخبة التي بيدها الحل في زمن التخلي الثقافي وزمن التجلي السياسي، الذي ولى دهره للدور التاريخي الذي كان يلعبه المثقف في حضارة الكلمة وبناء الفكر وتلاقحه؛ حيث إن إنتاج الفكر الذي كان يميز المثقف عن غيره لم يعد اليوم رئيسا، ما دامت ( تعددية الوسائط) الحديثة تسمح بترويج الأفكار بين الجماهير بعيدا عن النخبة وسلطتها في إنتاج الأفكار وترويجها، إننا اليوم بالتأكيد نعيش عالم نهاية النماذج، بما فيها نموذج المثقف.
لذلك، لم يعد للمثقف ما يثبت به وجوده باعتباره ذاتا مفكرة سوى قلمه، ينزوي به في برجه العاجي ليخط كلمات لا يقرؤها إلا النزر اليسير من أفراد المجتمع في زمن تخلى عن سلطة الكتابة، و لم يعد ينظر إلى “الكاتب” فيه بعده رأس النخبة المشكلة للوعي الجماهيري، وجزءا مهما منها في تحقيق الوعي الجمعي التي تشكل بدورها أساس التنشئة الاجتماعية التي تصبو إلى التأسيس وإعادة التأسيس للذاتين الفردية والجماعية معا.
وأنا لم أعد احتمل هذا الكم الهائل من الإهانات التي تطال الكتاب والمثقفين العرب بوجود أجندات وطغاة عربية ، لذلك كرست نفسي إلى زيارة الشمال السوري المحرر ، لأجل إصدار رواية مختصة بهم وبمشاكلهم و ثورتهم التي مازالت تصارع أقوى طغاة العالم من الإجرام والقتل .
يامن الفلسطيني
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع