في أول الليل من الخامس عشر من تموز، كان يبدو أن كل شيء قد انتهى، وظهرت الصورة قاتمة تماما، فالدولة الوحيدة التي ظلت ملجأ وداعما لقوى التغيير في العالم العربي، كانت قد دخلت للحظات في زمن الثورة المضادة، والتجربة التي بدت وكأنها كسرت كل احتمالات النكوص إلى الوراء، مرّت بمحنة كشفت عن أن الاحتمالات بقي في جعبتها بعض المفاجآت القادرة على البلوغ بالقلوب إلى الحناجر، بل واحتراق الحناجر بتلك القلوب من بعد احتراق الصدور بها، وأما عواصم الثورة المضادة فكانت في غاية الانتفاش، وقد تيقنت من أنها أنجرت مهمتها.
لحظات فقط، وانقلبت الصورة، وكان الانقلاب المعاكس يسير واثقا، يعود بالقلوب، شيئا فشيئا، إلى مكانها من الصدور، التي أخذت بدورها تبرد شيئا فشيئا، مع تصريحات الرفض والمواجهة والثبات الصادرة عن قيادات العدالة والتنمية، وكلمة أردوغان، ونزول الجماهير إلى الشوارع، وتكبيرات المآذن، واشتباك القوى المعاكسة مع قطاعات الثورة المضادة، حتى إذا ما بلغ الليل منتهاه، كان الصباح قد أشرق حقيقة ومجازا، فالانقلاب سقط، وقلوب المهاجرين من بلاد الظالمين، استقرت في صدورها، وكذلك قلوب البقية التي لم تزل تكافح في أماكنها.
إذن، فانقلاب العسكر، يمكن أن يفشل، والثورة المضادة التي أطبقت على الإقليم، والمجال العربي كله، لم تكن نهاية تاريخ العرب والمسلمين، والقوى الغربية التي تقف من خلفها أقل من أن تحيط مؤامرتها بكل شيء، والطائرة والدبابة المصفحة يمكن أن تكون هشّة، ومواجهتهما ليست مقامرة خاسرة بالضرورة، ففي تلك اللحظات اتضحت معاني التداول والتدافع، وموقع الحركة البشرية من التاريخ، كما اتضحت معاني الإحاطة الخفية بالبشر والتاريخ، وأنه لا نهاية للتاريخ أبدا.
منذ وقت طويل، ولا يبشر فرانسيس فوكوياما وحده بنهاية التاريخ، فالذاكرة وقعت في أسر النموذج الغربي الراهن، على نحو تمثلته وكأنه بداية التاريخ ونهايته، بل التاريخ كله، وأن الغرب دائما كانوا كما هم الآن، وهكذا كانت تبدو الأطروحات التي تجد حلّنا في مقارنات تبشيرية لكنها تستبطن الهزيمة وانعدام الوعي بطبيعة التاريخ، وكانت تغلو حتى تعتقد أن أنظمة الحكم القائمة، أنظمة الامتداد للاستعمار، والكيان الصهيوني، وكل شيء جاثم على صدورنا، سيبقى كما هو، وأن حلّنا الوحيد بالتسليم للهزيمة، والتصالح مع تلك النهاية المتخيلة.
ومنذ عشر سنوات، وكل محاولة جادّة للانعطاف بالتاريخ، تنكسر بين يدي القوى التي تدعي أنها تجسّد النهاية المحققة للتاريخ، ففوز حركة حماس بالانتخابات في فلسطين تحوّل إلى حصار طاحن، واحتمالات التغيير في مصر وتونس آلت إلى ردّة كاسحة، بينما اختلط الأمر في كل من اليمن وليبيا وسوريا واتسم بالغموض المحكم، وهكذا لم تنتفش قوى الثورة المضادة فحسب، ولكن الذاكرة المهزومة رجعت لإعادة تصوير التاريخ على مقاس مشاعرها المضطربة، دون أن تقدر على قراءة تلك الأحداث كلها كما هي، خطوات متراكمة تدفع التاريخ نحو انعطافته الكبرى.
في إسطنبول تكثّف هذا المعنى، فقد التصقت الهزيمة بالنصر، انتصر الانقلابيون للحظات وهُزموا في لحظات، وحصل التحول وضدّه في ساعات، ولم يكن تحولا تركيّا خالصا، ولا الهزائم والانتصارات المتتابعة كانت تركية محضة، فالعالم كله كان قابعا في إسطنبول يتصارع، وكانت إسطنبول تعطي الدرس بأن سنة التدافع في التاريخ أقوى من تدبير البشر، وأن منطق التاريخ أكبر من النهايات المدّعاة، وكلما كانت الكثافة بهذا القدر، وكانت دلالتها على هذا المستوى، كلما كانت انعطافة التاريخ أوضح من كل ما سبق.
في مدينة تاريخية أخرى، هي حلب، كان الدرس يتكرر، فمنذ أول هتاف في الثورة السورية، والأحداث المتعاكسة تبين أن النهايات أبعد منالا من الآمال، بيد أن النظام وحلفاءه يعتقدون عند كل كرّ لهم بأن النهايات قد صارت محقّقة دون أي اتعاظ بتجربة السنوات التي مضت، وكذلك اعتقاد الكثير من المتفرجين، إن كانوا أنصارا للنظام أم خصوما له، ولكن الذين كانوا أقل كلاما، كانوا الأقدر على تغيير مجرى الأحداث في حلب، أي الثوار الذين تمكنوا في ستة أيام من تغيير الصورة.
تحتل الجماهير في ذلك كله موقعا متقدما، وهو أمر لم يزل يتأكد، منذ أن كان مع الثورة التونسية، وهذا الدور الذي يتجاوز الفاعلين التقليديين، من نخب سياسية وعسكرية، وقوى إقليمية ودولية، أحد أهم سمات التحول التاريخي الكبير المستمر منذ تلك الفاتحة، آخذا سيره في مجراه إلى مستقره، وهذه السمة واحدة من العلامات التي تجعل من هذه اللحظة خاتمة لزمن وفاتحة لزمن جديد مختلف.
حينما تنتفش القوى الغاشمة، يظهر من بين الجماهير، شبيه بأنس بن النضر، الذي وجد في أحد رجالا من المهاجرين والأنصار، وقد ألقَوْا بأيديهم، فقال: ما يجُلسكم؟ قالوا: قُتِلَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل. وبمثل هذا تنكسر النهايات المتخيلة، ويُفسح للتاريخ في مجراه.
ساري عرابي – عربي 21