بقليل من النظر، وكثير من بعد النظر، رأى سوريون أن كل ما جرى لهم كان مخططاً مسبقاً، وأنهم حتى الآن لم يكن لهم أي دور في كل ما جرى ويجري، فحتى الانتهاكات الشخصية لحقوق بعض المواطنين باتت تعلق على شماعة المخطط العالمي.
وكان مما تعلمناه دائماً، أن الإنسان يصنع مستقبله بنفسه، وأنه يختار البدايات ويتأمل النهايات. لكن ما مرّ على الإنسان السوري كسر هذه القاعدة، على الأقل من منظوره شخصياً، فهو يرى أن كل ما حصل في سورية ناجم عن قوى خفية لا ناقة له فيها ولا جمل.
يعتقد السوري أنه عاش خمس سنوات بطولها وعرضها مأسوراً، وأن هناك قوى سحرية أقوى منه، هي المسيطرة على مسيرة تلك السنوات من الألف إلى الياء. وكل ما يمكنك فعله الآن هو أن تبتكر الأسماء لتلك القوى؛ بل وتتفنن بإطلاقك وانتقائك لتلك الأسماء.
برعنا بإزاحة كل المسوغات الحقيقية لأي فشل أو إخفاق، وتعليقها على شماعة القدر أو العين، أو كائنات فضائية هبطت إلينا من المحل الأرفع لتكبل قدميك ولسانك ويديك عن فعل ما يكون يوماً أو يسمى نجاحاً.
قال لي صديقي على “فيسبوك”: نحن السوريين لا ينقصنا شيء إلا الاعتراف بأننا أخفقنا بامتلاك الحقيقة، أو الاعتراف بها، والتي تتجلى بأننا وكما دائما ننفذ ثم نفكر، نسير وراء أحكام مسبقة، نندم بعد حصاد نتائجها على غبائنا وتسرعنا. قلت له: لكننا مثل كل البشر، فجميعنا خطاءوون وتوابون. فقال: إلا السوريين؛ فلحظة الاعتراف بالخطأ لم يعلموا ماهيتها بعد، فما بالك بأن يتجاوزها.
لم يخطئ صديقي بتوصيف الوضع، ولم أحمله نعوتاً أكبر مما يستحق، فأنا أدرك أننا أصبحنا بحاجة للاعتراف، ولو بيننا وبين أنفسنا، بكثرة الطرق التي مشينا، ولما نزل نمشي عليها من دون أن ندرك الحدود التي تجاوزناها، إنسانياً وأخلاقياً وثقافيا وحضارياً.
كل ما يملى عليك اليوم كفيل بأن يسقطك في متاهات الحضارة البدائية التي عفا عنها الزمن، وفي الوقت الذي يتسابق فيه العالم الآخر، أقصد به الغربي للحجز على أرض المريخ؛ لا زلت عاجزاً عن حجز بيت صغير في مدينةٍ آمنةٍ، أو ممكن أن تتوقع إمكانية أمنها في السنوات المقبلة.
هي الحرب نعم. لكن الحرب السورية ليست حرباً بالمفهوم السياسي للكلمة، بقدر ما هي وجع ونزف يومي، هي استنزاف مر لقدراتك على الصبر وحلمك بالعودة، أو بالاستقرار أو بحقك الطبيعي بالمواطنة.
تراكمت الأخطاء، وانهالت آثارها على رؤوسنا كوابل القذائف الذي لست تدري متى يتوقف في مدننا الجريحة، وقد يكون من الصدق أن نقول إنها سنوات عجاف، خسر فيها المواطن السوري ما كان يملكه، قليله وكثيره، وبات أمام خياراتٍ مؤسفةٍ لا يرى ذاته الضائعة في أي منها.
وبعد أن نادى بالمجتمع المدني، في أواخر القرن الماضي، يجد نفسه اليوم مصلوباً على أنماطٍ لم يعشها، وربما حتى أجداده لم يعانوا من مظاهرها وتجلياتها، وهذا يسري على شكله الخارجي وفكره الداخلي أيضاً، وإما أن تتغنى بالملامح الجدية، أو أن تنأى بنفسك خارج الوطن مكتفياً بما تبقى لك من من ذكريات ماضٍ قريب، لكن بعد التعدي عليه وتهميشه.
رحلة قصيرة عبر المدن السورية تضعك وجهاً لوجه أمام مفارقات ما يسمى المضحك المبكي؛ فمن اللوحات المعلقة، والتي يفترض أنها تعرف بتلك المدن، إلى الزي الخاص بتلك المدن وتقاليدها، إلى هموم أصحابها وشجونها ستجيبك عن سؤالك الحائر حول الحالة التي يعيشها السوري الآن، ناهيك عن التجاوزات الأخلاقية بحق أشخاصٍ كثيرين. وذلك كله يعني أن ما تم أفقد السوريين ما كانوا يمتلكونه، أو يتمتعون به من حياةٍ شخصيةٍ مستقرة، باتت شبه احتضار من دون أمل بالنهاية.
وبعد هذا، ربما كان من المنطق القول إن ما يحتاجه السوري، اليوم، ليس صحوة فردية، بل وعيا جماعيا، ونقصد وعي الأفراد بالعلاقات الاجتماعيّة الرابطة بينهم وبتجاربهم المشتركة، والأمل معقود على تطور هذا الوعي ونموه، ليحفّزهم على الاشتراك في تحمّل مسؤوليّة النهوض بهذا البلد الجريح. باتت الحاجة إلى تجاوز الأخطاء والعصف بكل الأجواء التي رافقت الحرب، وإنهائها أكبر بكثير من التأمل بمؤتمراتٍ عالميةٍ خلبية يدرك المواطن السوري أنها تعني العالم بأجمعه؛ لكنها أبداً لا تعنيه أو تهتم بإنهاء أزمته.
العربي الجديد