أفرزت الثورة السورية نوعاً خاصاً من الفن الثوري الذي يبعث الأمل بالمستقبل القادم, ولا يخلو من الإشارة إلى أصداء الماضي, وقد ارتبط الفن الوليد بأرض سورية وبتارخ حضارتها الإنسانية الضارب في أعماق التاريخ, وهناك من وصف هذا الفن الثوري بالعَالَم الإنساني الذي تلتقي فيه مشاعر الثوار على مستوى العالم من الشرق والغرب, فكان ملهماً لإبداعهم, وعاملاً مؤججاً لاستمرار كفاحهم ونضالهم ضد الجلادين المستبدين..
كرّس الفن الثوري الوليد في سورية تلك الحالة المركبة التي لا يفهمها إلا من تذوق طعم المعاناة مع الأمل, وبعث الشعور الممتزج بحرية الفكر والعطاء, والإصرار على إثبات الوجود من خلال ألحانه وكلماته التي أوصلت رسائل من نوع جديد إلى المجتمع الإنساني قاطبة..
رفضت الثورة السورية الفصل بين الفن والسياسة, بل ربما بدأت الثورة بشق طريقها من حنجرة ثائرة نطقت بكلمات مناهضة للظلم والطغيان, وأوصلت لحناً من نوع خاص يستجيب له الثوار, وترتعد من نغماته فرائص الظلام, لذلك غنّى الثائر السوري في الساحات والشوارع والمناسبات الكبيرة والصغيرة, غنى في كل الظروف القاسية, غنى عند الحزن والفرح, وعند الغضب والألم, غنى الثائر كلمات وألحان عاصفة منبعثة من وحي الماضي المكبوت للجموع الطامحة لنيل الحرية..
كان الفن مرافقاً لكل هذا الكم الهائل من اللحظات التاريخية التي مرت بها ثورة الشعب السوري, لتكون سورية كبيرة بفنها وبرواد ثورتها, فن مميز وأصيل مرتبط بالماضي العريق, هناك حيث خطّت أيادي السوريين حروف الأبجدية الأولى في أوغاريت, فن البلاد التي انطلقت منها الرقم الحاوية على أول سلم موسيقي في التاريخ, مهد الديانات, وموطن الانبياء والأخيار..
حاكى الفن الثوري كل الحالات المختلفة لمشاعر السوريين, فشخّصت الألحان والكلمات معاناة المهجَّرين من أرضهم, والفاقدين لأرزاقهم, والمقتلعين من بيوتهم, لذلك عمد المستبد إلى كم الأفواه وكسر ألحان الفنانين الثائرين المواكبين لمسيرة الشعب العظيم, الطالب للحرية والكرامة..
ولأن الشعب السوري الثائر انطلق منذ البداية بحراك شعبي سلمي, فرض عليه أن يصنع أدوات ثورته بنفسه, وكان الفن من أبرز هذه الأدوات التي صنعها الثوار بأنفسهم, فكان الصوت سلاحاً, والكلمة سيفاً, والأهزوجة بركاناً غاضباً, فمن منا سينسى ما أنشد الساروت, وما ردّد القاشوش وسط الجموع الغفيرة الثائرة..
فقد تسلَّح ابراهيم قاشوش بحنجرته التي اطلق منها الكلمات والألحان, التي كسرت حاجز الخوف, كان موسيقاراً ثورياً, أخذ بنبض الشارع ونهض بفن الثورة وأطلق الرسائل الواضحة لكل مستبد ظالم..
وأدرك النظام السوري منذ البداية, دور الفن ورواده في تأجيج مشاعر الناس, فوضع المفكرين الأحرار في السجون, وكسر أقلامهم, وانتزع حناجر المنادين بحريتهم, ولكنه خلد ذكراهم في التاريخ, ونقش القاشوش اسمه في جبين الثورة, ولن يمحى أثره من ذاكرتها الحية مهما حاول الظلام..
من ذاكرة الثورة, مجلة الحدث, حازم الحلبي..