اختار أولئك الذين بنوا النصب الرخامي التذكاري لكارل ماركس في مقبرة “هاي غيت” في لندن أن يُبرزوا تلك العبارة الشهيرة التي صاغها الرجل مؤسس الفكر الاشتراكي في العالم، وهي التي تقول: “لقد عملت الفلسفة حتى اليوم على تفسير العالم، بينما المهم هو العمل على تغييره”.
وفضلاً عن أنك لن تجد كثيراً من الناس، بل ومن الفلاسفة من يرفض هذه المقولة رفضاً قاطعاً ونهائياً، فإن الأمر الطريف هو أنها مكتوبة على نصب مبني في البلد الرأسمالي الذي لا يؤمن بماركس أو بآراء ماركس وأقواله. بل إن هذا البلد نفسه يفسح المجال لغيره من الفلاسفة، ومنهم من هو مدفون بالقرب من ماركس في المكان ذاته، أن يقول آراء مختلفة غاية الاختلاف عن آرائه.
هذا هو ما وصلت إليه البشرية اليوم، بعد كثير من المعاناة بالطبع، أي أن يتمكن البشر، وآراء البشر من العيش المشترك في الحياة (وبعد الموت) دون أن تسيل الدماء.
ومع ذلك فإن واقعنا نحن نفسه يقول إن اختلافنا في هذه النقطة، أو تلك من المسائل الفكرية، لا يزال يمنع الكثير من البشر من التواصل، أي من النقاش والحوار والتعايش، أو يدفعهم إلى الحروب والمجازر.
ولدى زكي نجيب محمود فكرة طريفة تقول إن من يرفض النقاش إنما يخشى من النتائج، وهو يفكر على النحو الآتي: ماذا لو استطاع الخصم أن يقنعني بخطأ رأيي؟ فهذا يعني أن يتخلّى عن حمولة فكرية ومذهبية وعقائدية قد يكون أمضى عمره كلّه في تكوينها.
بل إننا نرى ما هو أفظع من ذلك، أي أن يقرّر أحدهم قتل آخر لأنهما اختلفا في الرأي. ولعل هذا الأمر الفظيع هو واحد من أكثر “حقائق” عالمنا المعاصر الحاضرة بيننا، وأشدها إثارة للرعب في النفس البشرية، ويحدث هذا كله لأن قسماً من البشر يطلبون أن يتمكنوا من العيش أولاً، ومن العيش الكريم الذي يضمن لهم الكرامة والحرية والأمان والتوزيع العادل للثروة.
والمتتبع لما يجري على ساحة النقاشات السورية على وجه الخصوص، وقد صار لهذه الساحة خصوصية عجيبة وغريبة، سوف يرى أن الأكثرية منهم في كل الجهات تكاد تمتنع عن هذا النقاش، لا أحد يريد أن يدير حواراً مع الآخر، مرة لأن الحوار أو النقاش قد يكشف المخبوء، ومرة لأن الحوار أو النقاش قد يتسبّب في تبديل أفكارنا الثابتة والنهائية عن الموضوعات التي نتمسك بآرائنا حولها: البلد والثورة والنظام الحاكم.
وبسبب هذه النقطة، يفضّل الجميع خوض الحرب ضد الجميع، على إجراء حوار الجميع مع الجميع، أو مع أي طرف من الأطراف.
فقد فسد الود في معظم القضايا في هذا العالم، وفسد الود أكثر في عالمنا العربي على وجه التحديد، وتسبّب ذلك بارتكاب مجازر مخزية، قد لا يستطيع التاريخ نسيانها لمدد طويلة، دون أن يكون للقول الشهير الذي يتداوله العرب عن أن “اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية” أي قيمة فعلية.
المصدر: العربي الجديد