ترفعُ سمّاعة الهاتف لِتخبرني أنّ والدة طلابها ترفضُ إعطائها الأجر بعد أن أخبرتها سارة (درعا، 22 عاما) بعدمِ قدرتها على الاستمرار في تدريسهم..
أتريّثُ قليلاً في سؤالها عن سبب تركِ الأطفال، أنتظرُ أن تُنهِ حبلاً من الشتائم وأعلمُ بأنّها تحتاجُ أن تبثَّ شكواها، أن تُلقي باللومِ على والدها الذي تركها وأمِّها عندما كانت في الخامسةِ من العُمر، أن تغضب من ضعفِ أمِّها وطيبتها، أن تلعن الحاجة ألف مرّة..
تقول سارة: “مابدهم يعطوني أجار الحصص يلي درستهم، لأنّه بيعرفوا إنّي هون بالأردن لحالي مع أمّي، ماعندي لا أب ولا سند وسوريّة كمان، يعني روحي اعملي يلي بدّك ياه ما بيطلع منّك شي” وأمّي يا مريم، أمّي فاتحة بيتنا بتشتغل لكل الناس والجيران، بيفتحوا الجارات بأرض الديار ورشة مكدوس ومخلل وأنا عندي دراسة، لك ما بيقدْروا إنه عندي اختبارات جامعة وبدّي أتخرّج، المهم بيوتهم تضل مرتبة ونحنا عادي، وبس أقول لأمّي إنت مو مجبورة تشتغلي الهم، بتجاوبني: “ما بدّي تساعدينا”.. مفكرة مشان هيك عم ازعل!
أنا بزعل عليها وعلي، مابدي العالم تستغلنا..
سارة (اسم مستعار) لجأت وأمّها إلى الأردن في عام 2013 برفقةِ خالها وزوجته بسبب تأزّم الوضع في درعا، تاركةً خلفها حديقة منزلهم الذي تُحب، وبيت جدّها (والد أبيها) الذي تربّت بين يديهِ بعد هجرِ والدها لها ولأمّها.
والدة سارة (أردنيّة الجنسيّة، 52 عاماً) حينما عادت للأردن في عام 2013 لم تكن تملك عمل أو مهنة، فوالدُ زوجها كان كأبيها يهتمُّ بها وبابنتها سارة ويرعاهما، تقولُ سارة: لم نحتج يوماً لشيء في وجود جدّي، أنا ما عرفت أبوي وجدّو كان يناديني “بابا” الله لا يحرمني منه شقد حنون علي وبيدللني، وجدّي كتير زعل لمّا إجيت عالأردن مع أمي.
في كلام قاله الناشط المدنيّ أحمد المجاريش بعام 2019 -يقيم في العاصمة الأردنيّة عمّان- لـ”المونيتور”: الأردن هو أحد البلدان التي تأثّرت بموجة اللجوء السوريّ منذ بداية الثورة السوريّة في عام 2011، ويعمل النظام السوريّ وحليفته روسيا على إعادة اللاجئين السوريّين المقيمين في الأردن، لأنّ بقاءهم خارج سوريا بعد توقّف المعارك وعودة الهدوء المفترض إلى بلداتهم محرج للنظام وحلفائه.
تجتاز سارة اختبارات الثانويّة العامة لعام 2015 في الأردن بمعدّل امتياز، وتأتي اللحظة التي تُخبرني فيها بسعيها لدراسةِ الطّب، ولكن غلاء الرسوم الجامعيّة في الأردن حال دون ذلك، ألقاها في شارعِ بيتنا بمدينة البلقاء الأردنيّة فنتبادل بعض الأحاديث.
أسألها: إيه شو أخبارك سارة؟ مبارك نجاحك والله، بس ليش مو ع بعضك؟
تُجيبني بأرق: يا مريم جبت مُعدّل عالي بس مابقدر حقق حلمي وحلم جدّي وأدرس طِب، انهد حيلي وأنا عم دوّر ع مِنح، وإنتِ بتعرفي رسوم الجامعات هون شقد غالية، ونحنا مو أردنيين كمان.. وتُكملُ بغصّة من الكلمات المتزاحمة لا تدري أيها تُخرج وبأيّها تحتفظ! ع أساس أبناء الأردنيّات بيتعاملوا معاملة الطلاب الأردنيين، طلع مافي من هالحكي!
وهلّق مابعرف شو أعمل!
تستدركُ كلامها: ع أساس عمّي يبعتلي أسجل أول فصل بس أكيد مو طب ما بقدر أدفع رسومه..
وبعد شهر تقريباً، مع بداية التسجيل في الجامعة تتواصل معي سارة لأساعدها في تثبيت قيدها بتخصص “التحاليل الطبيّة” في جامعة البلقاء التطبيقيّة.
وفي عام 2016 حينما كانت بزحمة المُحاضرات تتلقّى سارة (اسم مستعار) مكالمة من إحدى قريباتها، تُجيبُ على عُجالة في وسط الضحكات التي تُحاولُ أن تتغلّب بها على ثِقل الأيّام في غربتها، تقولُ لي سارة: أكملتُ نهاري بشكل طبيعي، وكنتُ أتصفّح الفيسبوك في ذلك اليوم خِلسةً بين المُحاضراتِ كعادتي، لا جديد! ولكن حينما عُدتُ متأخرة في المساء -تعرفين المختبرات تنتهي بالجامعة مع أذان المغرب- ودخلتُ المنزل وجدتُ ملامح أمّي مضطربة، هذه المرّة وعلى غير عادتها لم تستطع إخفاء مشاعرها، أن تُداري خوفها من ردّة فِعلي!
وبعد أن جلستُ على الأريكة أتأمّلُ بزوايا بيتنا الموحش إلا من وجه أمّي، اصطدمت عينيّ بعينيّ والدتي المرتبكتين.. قالت أمّي مُحاولةً ضبط مشاعرها: بدي خبرك شغلة بس مابدّي تخافي.. ودون تفكير خطر في بالي بيت جدّي في درعا..
أجبتها: “صاير شي عند أهلي؟”
صمتت أمّي قليلاً..
بدأتُ بالبكاء وكأنني فقدتُ كلّ ما أملك..
أخبرتني: “جدّك توفى”
تزايدت حرارة البكاء في قلبي، أسرعتُ لغرفتي.. أغلقتُ الباب خلفي تاركةً أمّي في الصالة وبدأتُ أشهق بغصّة غير متمالكةً نفسي..
تُضيفُ سارة (اسم مُستعار) أمّي تربطت إيديها، ما بتعرف شو تعمل يومها؟ كانت خايفة عليّ كتير..
تقولُ لي بألم: خسرتُ والدي مرّتين، وهيَ خسرت الزوجُ آنفاً ومن ثُم ّوالدها والآن والدُ زوجها الذي كان كأبيها! تقفُ أمّي مُثقلةً، تحملُ حزنها وتتوارى بهِ عن الأنظار لتحمل عني ما استطاعت.
تُكملُ سارة، حينما علمت زوجة خالي بالخبر -والتي قدمت معنا إلى الأردن في 2013- أتت تواسيني، هي أيضاً توفيَ والدها قبل شهرين تقريباً، ما زال الحُزنُ مقيمُاَ في قلبها..
تحتاجُ أن تبكي.. وأحتاجُ أن أشعر بمن يُشاركني حزني من رائحة سوريا..
كلنا هنا في غربة! أنا وزوجة خالي لم نستطع الدخول لسوريا لنودّع آبائنا، الحدود الأردنية مغلقة يا مريم، تخيّلي: لم أستطع أن أشكر جدّي ولا أن أقبّلهُ على جبينهِ قبل دفنه..
عاش آلاف السوريين الغربة والفقد، أزمة الحدود التي ما برحت تُشكّل هاجس الخوف حتى الآن لدينا جميعاً، أن نفقد عزيز فلا نملك توديعه، أو أن نفرح لفرح قريبٍ لنا.. تٌنهي سارة حديثها بِحرقة: لم أستطع أن أزور قبر جدّي إلا بعد عامين من دفنهِ.
بقلم : مريم الرحمون
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع