أمّ أحمد، مهجّرة من ريف إدلب الشّرقي إلى مخيّمات الشّمال، تعيش مع زوجها المُصاب وأطفالها السّبعة في خيمة تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، تجلس أمام خيمتها على حجرٍ، تضع يديها فوق بعضهما في حِجرها، وتنثني إلى الأمام قليلا.
كيف يُشرع النظام السوري السيطرة على الأملاك
تتنهّد قليلا ثمّ تتحدّث عن وضعها ونزوحها، تارة تتلفت يُمْنَةً ويُسرى، وتُطْرِقُ في الأرضِ تارةً أُخرى، تقول بصوت يملؤه الشّجن:
” صار لي أربع سنين نازحة، وما حدا اعترف علينا بهالأربع سنين، طلعنا على جرجناز، تلقّونا جماعات، حينتن نزلنا وتذوقينها فرحة، جَنْ الطيارات وبلّشن ضرب”
تسكت أم أحمد قليلا ثم تتابع حديثها عن لحظة وصولها، وكيف باغتتهم الطائرات بالقصف. الصّواريخ تتساقط حولهم من كل جانب، فَتَهْرَعُ هي وأولادها تبحث لهم عن مأوى يقيهم من القصف، الأرض مليئة بالطين، وأولادُها الصغار حفاةٌ لايجدون ما يَنْتَعِلُون، يرتجفون من البرد والخوف معاً.
السماء فوقهم تمطر والطائرات تقصف، أيُّ خطرٍ مُحدِقٌ بهم؟!، وأيُّ مجهولٍ ينتظرهم؟!.
“جوز أختي توفى، هو وسيارته انحرق، وبعدين طلعنا، الله سَلَّمْنا”
تقول أم أحمد هذه الكلمات، والحزن يُرخي سُدولَه عليها، تتذكر ذلك اليوم الذي نجوا فيه بأعجوبة من موتٍ مُحتّم، في ظلّ قصفٍ وبردٍ ارتعدت منه فرائصُهم، يركضون بين السّماء والطّارق، لاحول لهم ولاقوّة.
يحطّون عصا تَرْحالِهم في خيمةٍ صغيرة، يحيط بها الوحل من كل جانب، صنعوا لها رُواقاً من حجارة علّها تمنع عنهم تدفق مياه الأمطار التي تغمر المكان.
يظنّون أنّ هذا نهاية المطاف، ولكن لم يَطُلْ مكوثُهم فيها، فسرعان ما باغتهم القصفُ، وعادوا إلى النزوح مُجدّداً، كانت وجهتهم هذه المرة إلى سرمدا، جلسوا في العراء، ولم يلتفت إليهم أحد.
بدؤوا بجمع بعض الأشياء من مكبّات النفايات القريبة منهم، وأكياس ” النايلون” ليستعملوها في التدفئة والطبخ.
ذاتَ مرّةٍ أشعلت ابنتها الكبرى النار بتلك الأكياس دون أن تنتبه إلى ما يحمله لها القدر فيها. رصاصةٌ كانت قد توارت في أحدها، وتحيّنت فرصة إشعال النار لتنفجر في يد تلك الفتاة. أسرعت بها أمّها إلى المستوصف، أخرجوا لها الرصاصة وحال أمّها يقول:
” الفقير يظلُّ متعثّرا”.
تقصف الطيارة مُجددا، يُستشْهَدُ أخوها البالغ من العمر 23 عاما، ويصاب أبوها وأمّها بالشّلل حزنا على فلذة كبدهم. تقرر أم أحمد أن تبحث عن عمل لِتُعينَ أولئك جميعا:
“قلت لهم أشتغل بإيش ماكان، المهم أعيّش هالبنات، وعالنظام مانحسن، آني عندي بنات صبايا وماعندي شباب، آني خايفة على عرضي.. ستين موتة ولا الواحد تلحقوا كلمة”
فأمّ أحمد تدرك يقينا حقيقة النّظام القذرة؛ لذا فهي لاتأمنُ على بناتها وعِرضها، فآثرت المعاناة والألم وضيق الحال في الشّمال المحرر على أنْ تقع في براثِن النّظام.
تجدُ أم أحمد عملا، في البطاطا، ويساعدها ابنها الصغير الذي لم يتجاوز ال12 عاما، يعمل من الـ 6 صباحا إلى الـ 6 مساءً ليحصل على 10 ليرات تركية، لاتكاد تكفيهم ثمن الخبز على حدّ قولها.
تتابع حديثها عن معاناتها بقلب منكسر، يملؤه الألم:
” نحنا خيمتنا كلها “جنفاص” استعاريتها من الجيران.. أول ما نزحت ما عندي.. جمعتها وساوينا خيمة.. معاناتنا كتير صعبة.. 14 نفس..أختي عندها بنتين وأنا وعيلتي وزوجي المصاب.. الحمام صعب.. إذا أريد أحمم واحد من الولاد ياخد برد.. عندي واحد معه فقر دم.. أحممه كل شهر شهرين مرة.. إذا ما طلعت الشمس صعب الحمام علينا.. كان عنّا أرازاق.. وبيوت.. وحمام.. وصوبة.. ومي نظيفة عالقليلة.. المي اللي يشربوها ولادي بسببها حلوقهم مسكرة”
بهذه الكلمات تُنهي أمّ أحمد كلامها، وتتمنى لو بالإمكان أن تنتهي معها آلامها وأوجاعها، التي تجرّعتها هي وكل من يسكن معها في تلك الخيمة التي تضيق بهم ذرعا في مكان لايكاد يتّسع إلى أحلامهم المكبوتة، لعلّها تُفرَجُ عليهم ذاتَ يوم، ويهنؤون بحياة كريمة.
ظلال العبّود