تعد قصيدة عنترة واحدة من خالدات الشعر السياسي، وأيقونة الشعر السياسي في سوريا فقد تناولت صورة الحاكم المتسلط المستبيح لكل شيء، مستعبد المواطنين، ومستملك الدولة بأكملها، فقد صور نزار قباني في قصيدته الحاكم العربي يقترب من فكرة الأباطرة في العصور القديمة إذ كان يحكم البلاد بصفة تمليك إلهي لا يحق لاحد مناقشته أومراجعته في أي أمر، وكل ما في حكم دولته هوملك شخصي للحاكم وعائلته، الملاحظ في القصيدة أن نزار لم يلمح لحاكم معين ولم يذكر اسم الحاكم أويصفه بأوصاف شخصية تضيق حتى تحدد شخصه في حافظ الأسد أوأخيه أوحتى فيما قبله كالشيشكلي وحسني الزعيم، بل أطلق صفات عامة مشتركة في شخصية الحاكم العربي أي حاكم، فهم جميعا في رأيه أجساد تملك الفكر ذاته، وما التغيير إلا تغيير في الأسماء لكن الجوهر الفاسد هوذاته.
قصيدة عنترة
هـذي البـلاد شـقـةٌ مفـروشـةٌ، يملكها شخصٌ يسمى عنتره …
يسـكر طوال الليل عنـد بابهـا، ويجمع الإيجـار من سكـانهـا..
ويطلب الزواج من نسـوانهـا، ويطلق النـار على الأشجـار …
والأطفـال … والعيـون … والأثـداء …والضفـائر المعطـره…
هـذي البـلاد كلهـا مزرعـةٌ شخصيـةٌ لعنـتره …
سـماؤهـا.. هواؤهـا … نسـاؤها … حقولهـا المخضوضره …
كل البنايـات – هنـا – يسـكن فيها عـنتره …
كل الشـبابيك عليـها صـورةٌ لعـنتره …
كل الميـادين هنـا، تحمـل اسـم عــنتره …
عــنترةٌ يقـيم فـي ثيـابنـا … فـي ربطـة الخـبز …
وفـي زجـاجـة الكولا، وفـي أحـلامنـا المحتضـره…
مـدينـةٌ مهـجورةٌ مهجـره …
لم يبق – فيها – فأرةٌ، أونملـةٌ، أوجدولٌ، أوشـجره …
لاشـيء – فيها – يدهش السـياح إلا الصـورة الرسميـة المقرره..
للجـنرال عــنتره …
فـي عربـات الخـس، والبـطيخ …
فــي البـاصـات، فـي محطـة القطـار، فـي جمارك المطـار..
فـي طوابـع البريـد، في ملاعب الفوتبول، فـي مطاعم البيتزا …
وفـي كل فئـات العمـلة المزوره …
فـي غرفـة الجلوس … فـي الحمـام.. فـي المرحاض..
فـي ميـلاده السـعيد، فـي ختـانه المجيـد..
فـي قصـوره الشـامخـة، البـاذخـة، المسـوره …
مـا من جـديدٍ في حيـاة هـذي المـدينـة المسـتعمره …
فحزننـا مكررٌ، وموتنـا مكررٌ، ونكهة القهوة في شفاهنـا مكرره …
فمنذ أن ولدنـا، ونحن محبوسون فـي زجـاجة الثقافة المـدوره …
ومـذ دخلـنا المدرسـه، ونحن لاندرس إلا سيرةً ذاتيـةً واحـدهً …
تـخبرنـا عـن عضـلات عـنتره …
ومكـرمات عــنتره … ومعجزات عــنتره …
ولا نرى في كل دور السينما إلا شريطاً عربياً مضجراً يلعب فيه عنتره …
لا شـيء – في إذاعـة الصـباح – نهتـم به …
فـالخـبر الأولــ – فيهـا – خبرٌ عن عــنتره …
والخـبر الأخـير – فيهـا – خبرٌ عن عــنتره …
لا شـيء – في البرنامج الثـاني – سـوى :
عـزفٌ – عـلى القـانون – من مؤلفـات عــنتره …
ولـوحـةٌ زيتيـةٌ من خـربشــات عــنتره…
وبـاقـةٌ من أردأ الشـعر بصـوت عـنتره …
هذي بلادٌ يمنح المثقفون – فيها – صوتهم، لسـيد المثقفين عنتره …
يجملون قـبحه، يؤرخون عصره، وينشرون فكره …
ويقـرعون الطبـل فـي حـروبـه المظـفره …
لا نجـم – في شـاشـة التلفـاز – إلا عــنتره …
بقـده الميـاس، أوضحكـته المعبـره …
يـوماً بزي الدوق والأمير … يـوماً بزي الكادحٍ الفـقير …
يـوماً عـلى طـائرةٍ سـمتيـةٍ.. يوماً على دبابة روسيـةٍ …
يـوماً عـلى مجـنزره …
يـوماً عـلى أضـلاعنـا المكسـره …
لا أحـدٌ يجـرؤ أن يقـول : ” لا “، للجـنرال عــنتره …
لا أحـدٌ يجرؤ أن يسـأل أهل العلم – في المدينة – عن حكم عنتره …
إن الخيارات هنا، محدودةٌ، بين دخول السجن، أودخول المقبره..
لا شـيء فـي مدينة المائة وخمسين مليون تابوت سوى …
تلاوة القرآن، والسرادق الكبير، والجنائز المنتظره …
لا شيء، إلا رجلٌ يبيع – في حقيبةٍ – تذاكر الدخول للقبر، يدعى عنتره …
عــنترة العبسـي … لا يتركنـا دقيقةً واحدةً …
فـ مرة، يـأكل من طعامنـا … ومـرةً يشرب من شـرابنـا …
ومرةً يندس فـي فراشـنا … ومـرةً يزورنـا مسـلحاً …
ليقبض الإيجـار عن بلادنـا المسـتأجره
نزار قباني