الأرض كالعرض .. كثيراً ما كنت أسمعها من والدي وجدّي في صغري وإلى الآن، آنذاك لم أكن أعي معناها أو آخذ لها بالاً، بقيت هذه العبارة تتردد على مسمعي في كل حين، جمع والدي من دنمات القرية ما جمع، من مزارع الزيتون والرمان وأشجار التين المعمرة ومزارع أشجار الفستق الحلبي، التي لم يرى محصولها قط، وغيرها من الأراضي الزراعية ذات محصول القمح والشعير، فقد كان كل شبر من تلك الأرض له فيها قصة وحكاية.
يحدثني والدي في كل يوم عن موسم الزيت والزيتون، فيما عينيه تذهب بعيداً لتلمع الذكريات واضحة في بريق عينيه، كنا في كل سنة في الشهر العاشر نستعد للبدء في جني موسم الزيتون بفرح وحماس، فلا فرح أجمل من فرح جمع نتاج تعب يديك لسنة كاملة والنظر إليه، فهذا حصاد ما زرعت بعرق جبينك.
مع استيقاظي صباحاً تبسم لي والدي ضاحكاً، اليوم كنت في زيارة لمزرعتنا الغربية وكنت أشيح الأشجار عن جذع دالية العنب المتشعبة، ضحكت قائلة في منامك كالعادة، تنهد سارحا في خياله بعد أن تحولت ملامح البهجة إلى عجز وحزن، فهذه السنة الثانية على تهجيرنا من بلدتنا في ريف إدلب الجنوبي، بعد أن أصبحت محتلة من قبل النظام و أتباعه، إذ أصبح حلماً لنا رؤيتها حتى بالصور.
لا يكل ولا يمل والدي من ذكر جمال قريتنا وخيراتها ودفئها، إذ غدت الأحلام اليومية الوحيدة القادرة على عودة بسمته وشفاء حنينه، بينما كنت في طريق عودتي للمنزل لمحت خيال أبي ينظر إلى الأفق بعينين كئيبتين وشفتان مطبقتان، كأن قبلة الفقد انطبعت عليهما، متكئا على غصن شجرة زيتون في المزرعة المجاورة، سارعت نحوه وقاطع وجودي شروده، أفلت الغصن من يده تاركاً إياه يترنح يمنة ويسرة، أمسك يدي وجلس جاثياً على ركبتيه ليسألني أتعلمين ما هو الذهب الأحمر، أجبته أليس حلي للنساء بلون أحمر ؟ أخذته ضحكات عميقة فأخذ بيده حفنة من التراب الأحمر قابضا عليه بقوته هذا هو الذهب الأحمر يا صغيرتي .
من أسس التربية السوية، التربية على حب الأرض والانتماء إليها وخدمتها، لكن الكثير من السوريين الذين هُجروا قسراً من بلادهم وأرضهم فقدوا انتمائهم لها، لكنهم لم يفقدوا محبتها أو حنينهم إليها، فحال أبي كحال الكثيرين غيره، نعم الأرض كالعرض .
بقلم : سهير إسماعيل