أثناء الحملة الانتخابية، وخلال العشاء السنوي للبيت الأبيض الذي يضم الصحافيين المعتمدين، سخر الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما من دونالد ترامب وضحك الصحافيون ضحكات مدوية. آنذاك، كان الحاضرون ببدلات أنيقة يظنون أن فرص ترامب بالفوز معدومة. لكن “النكتة باتت واقعا” ترامب الرئيس.. رسميا.
منذ بضعة أيام، وخلال المؤتمر الصحافي للرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض قال مخاطبا أحد الصحافيين “لا تكن وقحا”. ثم أضاف “لا تكن وقحا”، هذه المرة تأتي النبرة أعلى بقليل.
نزلت العبارة من على منصة ترامب وحطت على رأس مراسل قناة “سي أن أن”، سكت الأخير منصاعا وسط تهليل بعض الحاضرين في القاعة، لاحقا تكتشف من هم حقا.
هكذا يُمنع المراسل من طرح سؤاله وتعلق جملة واحدة قالها سيد المنبر “وسائل إعلام مفبرِكة”. المفارقة أن العبارة تأتي على لسان ترامب الذي طفحت حملته الانتخابية بمعلومات خاطئة لم تثن واحدا وستين مليون ناخب عن التصويت له. وهي مفارقة أيضا لأن الرجل الذي يقف على المنصة، هو نفسه الذي جعلت حملته الانتخابيةـ إلى جانب حملة “البريكست” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) عبارة “بوست تروث” أو (ما بعد الحقيقة) تصبح كلمة العام 2016 في قاموس أوكسفورد.
لا يتردد ترامب في مهاجمة من يعتقد أنه يهاجمه، لا يرمش له جفن وهو يقمع صحافيا، لا يهمه اتهامه بمحاولة تضليل من يشاهد المؤتمر، خصوصا بعدما يكتشف الجميع أن من صرخوا بـ”نعم” عند إسكات المراسل ليسوا زملاء الصحافيين، بل هم موظفون مدفوعو الأجر لدى ترامب، مهمتهم كانت التهليل والتصفيق له في المؤتمر، والتشويش وإطلاق عبارات استهجان عند سماع سؤال لا يعجبهم.
لقد تعود سيد البيت الأبيض الجديد الآتي من عالم تلفزيون الواقع أن يكون البطل بلا منازع، تجربته مع الكاميرا بدأت من برنامج “ذي أبرنتيس” مع جملته الشهيرة “أنت مطرود”، ولا تنتهي مع مسابقات ملكات جمال الكون متوجا جميلة من جميلات العالم. في كل هذه “المنتجات الإعلامية” هو سيد الصورة ومقرر لمصير الآخرين.
وبات الرئيس الجديد داخل البيت الأبيض يتصرف بإمكانيات هائلة وبثقة وصلاحيات تضاعفت مرات ومرات بعد فوزه بالانتخابات. قبل انتخابه، ساهمت وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها بوصوله إلى حيث هو عندما تحول إلى مادة ناجحة لجذب المشاهدين بتصريحاته وتغريداته.
لاحقا، عبر الإعلام الأميركي عن ندمه، لكن ترامب بات الآن رئيس الولايات المتحدة المنتخب، وبات على المحك مبدأ مقدس في الولايات المتحدة الأميركية، وهو الفصل الأول من الدستور الأميركي الذي يتضمن حرية التعبير، والذي لطالما ابتلع من أجله رؤساء أسئلة حارقة وحرصوا على الإجابة عليها بهدوء.
لقد سبق لكبرى مؤسسات الإعلام الأميركية أن ارتكبت أخطاء فظيعة بعد تلاصقها القاتل مع السلطة. هذا واقع مؤكد عمل نعوم تشومسكي وغيره الكثيرون على تفكيكه. ويكفي أن يسترجع المرء ما قالته “سي أن أن” وما كتبته الصحيفة العريقة “نيويورك تايمز” من شهادات ومصادر عن امتلاك العراق للسلاح النووي، ما برر لدى الرأي العام اجتياح الولايات المتحدة للعراق عام 2003، لفهم خطورة الدوائر المغلقة بين السلطة السياسية والإعلاميين الذين يصبحون مجرد صدى لها.
أكثر من هذا، معظم التغطيات التي صنعت فارقا في السنوات الماضية نتجت عن قطيعة معلنة مع السلطة، لا بل من اشتباك معها بمصاحبة سند قانوني متين، مثال على ذلك عندما خاطر الصحافيان غلين غريينوالد ولورا بواتراس بالكثير وتعرضا مع المقربين منهما لمضايقات لا حصر لها، من أجل نشر وثائق سنودن في “الغارديان” البريطانية قبل أن تنضم “نيويورك تايمز” الأميركية لنشر المعطيات التي أحدثت زلزالا في العالم.
في واشنطن، أدركت العديد من الوسائل الإعلامية في الأشهر الأخيرة أنه بات عليها الابتعاد عن الطرق التقليدية في حال كانت تريد الحصول على معلومة من خارج “النظام”، وأنها قد تعاني في الفترة المقبلة للحصول على ما تريد في ظل عدائية مستمرة من فريق ترامب تجاه الصحافيين النقديين.
ويفاخر ترامب بترسانة محامييه الضخمة، ورغبته بملاحقة من يرتكب مخالفة بحقه ما عقد مهمة بعض الصحافيين، لكنها في الوقت نفسه دفعت منصات إعلامية إلى الحذر من ثغرات قانونية تضعها أمام المحاكم.
كما يعتمد مبدأ تجنب الرقابة وأسئلة الصحافيين عبر استخدام تويتر ومنصات التواصل مباشرة، قابله إنشاء أكثر من وسيلة إعلامية لأقسام جديدة مهمتها التحقق من الوقائع وملاحقة الملفات الحساسة وتفعيل حضورها هي على المنصات الرقمية.
وقالت جين هول، أستاذة الصحافة في معهد الاتصال في جامعة “أميركان يونيفرسيتي” إنه “عندما يستخدم أحد ما مكبرا للصوت لضرب وسائل الإعلام باستمرار، يصبح الأمر صعبا”.
كما تصاعد التوتر عندما أعلنت وسائل إعلام أميركية أن فريق ترامب يفكر في عدم السماح للصحافيين المعتمدين بالعمل داخل البيت الأبيض نفسه، منهيا بذلك تقليدا سائدا منذ خمسين عاما.
ويرى الصحافيون المتخصصون بشؤون الرئاسة الذين نشروا الثلاثاء رسالة مفتوحة إلى الرئيس، أن هذه الفكرة تندرج في إطار مسار حملته. وقالوا “إنكم تمنعون الصحافة من تغطيتكم”.
وقال الرئيس المنتخب، خلال مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز” ، “لا أحب تويتر، لكنني أواجه وسائل إعلام غير نزيهة، إنها الوسيلة الوحيدة التي أملكها لشن هجمات مضادة”.
وحذر مات غيرتز، الباحث في المنظمة المستقلة “ميديا ماترز” على مدونته، من أن ترامب “سيحاول نزع مصداقية وسائل الإعلام التي تقوم بتغطية تنتقده والسعي إلى تأليبها على بعضها ومكافأة تغطية وسائل الإعلام التي تمدحه ويشجع وسائل الإعلام الأخرى على أن تحذو حذوها”.
وقال كاتب الافتتاحية جاك شافر على موقع “بوليتيكو” الإلكتروني إنه “بدلا من الاعتماد على النوعيات التقليدية للصحافة السياسية” قد يكون على الصحافة “التفكير في تغطية واشنطن ترامب كمنطقة حرب”.وأضاف “انسوا قاعة الصحافة في البيت الأبيض”، مؤكدا أنه “حان الوقت للعمل على أرض العدو”.
وهو يؤكد أن وسائل الإعلام التي تملك الإمكانات بدأت وعلى طريقتها، السير في هذا الطريق إذ سترسل “واشنطن بوست” و”وول ستريت جورنال” فرقا حقيقية مخصصة للتحقيق في ترشيح ترامب ثم انتخابه.
وأعلنت صحيفة “نيويورك تايمز”، الثلاثاء، أنه على الرغم من إلغاء مقبل لوظائف، ستخصص خمسة ملايين دولار إضافية لتغطية ولاية دونالد ترامب.
العرب اللندنية