قبل نحو سنتين؛ أي عام 2018، فتاةٌ في العشرين من عمرها تجلس على قارعة الطريق المقابل للمكتبة المركزية بوهران، شاردةً في بهو الساحة المركزية و عينياها تخبئان قصصا.
سارة فتاةٌ تنتمي لعائلةٍ فقيرةٍ لا تملك مدخولاً يوميا ولا منزلا لائقا سوى بعض القصدير المنمق المعجون على هيئة بيت بلا سقف متين، والدها كانَ حلاقاً ثم أصيبَ بالشلل إثر حادثِ سيرٍ أرداه طريح الفراش للأبد، أما والدتها فكانت امرأةً ضعيفةً لم تجد حلّاً لتسديد ديون زوجها سوى بالتسوّل، بعدما ضاقت بها السُّبل في البحث عن عملٍ ينقذ آخر ما بقي من كرامتهم، ولها أختٌ وأخٌ يصغرانها ببضع أعوام.
لجأت والدة سارة للدين كي تعالج زوجها ، لكن جميع محاولات الأطباء باءت بالفشل، وقصدت أهل زوجها علّهم يجدون حلا لابنهم لكن شقيقه كان أقسى من أن يرأف بأخيه، وزاد همها كيف لا وهي الغريبةُ عن أهلها منذ أن سافروا إلى الخارج ولم يسألوا عنها طيلة اثنتا عشرة سنة.
لم تترك أم سارة باباً إلا و قصدته علّها تجد مساعدات لكنّ المساعدات التي كانت تصلها طفيفة ولا تحدث فرقاً، إلى أن سئمت الوضع وقررت أن تتسول.
تتسوّل لأجل أطفالها الثلاثة الذي يبيتون دون مأكل أو مشرب، ويتحملون برد الشتاء في بلادٍ كثيرة الخير والكرم، وتغطي مصاريف أبنائها و توفر ما استطاعت من الأدوية لزوجها.
بدأت سارة التسوّل منذ أن بلغت الثامنة، واضطرت لتتغيّب لأول مرة عن مدرستها لسببٍ مؤلم، إذ فاجأتها أمّها بأنها ستضطر للعمل كمتسولة على الطريق المؤدي لوسط المدينة بصفةٍ يوميّة لكي تساعدها في جلب مصاريف المنزل، لم تصدق سارة ما تقوله والدتها التي كانت تحثها يوميا على التركيز في الدراسة والتفوق، انهارت سارة ولكنها علمت أنها لا تملك خيارا آخر غير القبول وتسليم أمرها لله.
مالبثت أن تخلت سارة عن الدراسة نهائيا، وباتت تحفظ طرقات المدينة طريقاً طريقاً، حتى أنها كانت تقود جماعة أطفالٍ متسولين ليسترزقوا بهذه الطريقة، تحسّن قليلاً دخل العائلة، كانت سارة تجني أموالا جيدة مقارنة بوالدتها التي كانت دوما ما تتعمد تلطيخ وجه ابنتها لتبرز عينيها العسليّتين من بين الوجل كأنها لؤلؤ فيؤلمهم وجهها البريء فيجودون بما استطاعوا عليهما.
كانت الفتاة تائهة تماما، منهكة العينيْن و تسكنها أفكار بالانتحار هرباً من هذه الحياة، كانت تكتب بعضَ مذكراتها لكن سرعان ما تحرقها إذا تذكرت واقعها.
ذات يوم، قررت معلمة سارة أن تقيم رحلةً لوسط المدينة، وبعد ساعات من الاتصال بوالدي سارة لم تتمكن المعلمة حتى من التحدث معهما بخصوص تعليم ابنتهما.
وانطلق الأطفال في رحلة حتى وصلوا إلى التمثال الشاهق الذي يتوسط الساحة وحوله السياح والمصورون و حتى الزائرون المحليون والباعة، تجولوا في المكان وقصدوا متنزه الوسط حتى تفاجؤوا بما رأوه، صديقتهم سارة التي تخلت عن مدرستها منذ سنتين هاهي اليوم متسولة؟؟
ذهل جميع التلاميذ لهول ما رأوه، أما الفتاة فتحجرت عبراتها وأحست أن خنجراً يفتكّ بأحشائها الوهنة، أسرعت سارة بالهرب نحو منزلها و جلست في زاوية إحدى غرفه وبدأت بالبكاء، سمعتها أمها وحاولت الاستفسار عن الموضوع :
ما بك يا ابنتي ما يزعجك؟
رأيت اليوم معلمتي وأصدقائي يتجولون في الساحة المركزية بأزياءِ المدرسة المنظمة وتسريحات الشعر الأنيقة وكتبٍ وأقلام وحلوى، لماذا لا أملك ما يملكون؟ ، لم شعري مجعّد وأشعث وملابسي مرقعة ووسخة؟؟
هذه أقدار الله فماذا نفعل؟
لا، بل قرارك أنت! أنت من جعلتِ مني متسوّلة في عمر صغير..
لم تستطع إكمال كلامها وبدأت بالبكاء بأعلى صوتها، وعلى حين غرة سمعها والدها و انغرست في صدره شوكة كبرىَ أردتهُ مصعوقاً، لكنّه لم يحرك ساكناً ولم تغيّر دموع سارة من واقعها في أي شيء.
عانت سارة من اضطرارية التسول لأربع سنوات أخرى، وشاءت الأقدار أن يغادر والدها للأبد تاركا إياها تواجه قساوة الحياة مجددا، لكنها لم تستسلم، بل وتركت التسوّل واتجهت للدراسة عن بعد لتعويض كل ما تأخر عنها في تعليمها.
خلال أربع سنوات، تعبت سارة تعباً شديداً وهي تعمل بائعةً لدى الدكاكين وتحاول استدراك نقصها التعليمي،
و قدر الله لها أن نجحت واستطاعت دخول كلية الحقوق لترسم أولى مخططاتها المستقبلية وهو مشروع “سارة” للحد من تسوّل الأطفال.
رغم أن سارة الآن مستقرة نوعا ما، إلا أن جرح الطفولة لا يزال يفيض، ورغم علاقتها الجيدة مع والدتها إلا أنها لا تستطيع نسيان ماضيها وتاريخ تسولها، كل لحظة مرت عليها من غبن وبؤس وبلاء تحول بعد سنوات كفاح إلى مسيرة نجاح .
علينا كأهالي وأسر أن نعدّ الأطفال كالقادة من خلال طريقٍ جيد يخفف عنهم ما يستطيع من آلام وتشوهات روحيّة وأحزان قد تعيق بناء مستقبلهم.
ميسوم خديجة/المركز الصحفي السوري