لم يترك النظام السوري لسكان بلدة مضايا المحاصرة إلا خيارين: الموت بالرصاص أو بالجوع.
وتقول راميتا نافي في تقرير أعدته لصحيفة “صندي تايمز”: “لم تكن أمل نعمة قادرة على المشي؛ ليس لأنها حامل في شهرها التاسع، ولكن لأنها كانت ضعيفة، رغم توفر فرصة لها للهروب، حيث أخبرها مخبر عن طريق سري يمكنها الخروج منه”.
وتضيف الكاتبة: “كان القرار سهلا، فلم يصل طعام إلى البلدة منذ شهور، وكان سكان البلدة يشعرون بالجوع، ومات بعضهم. وأدى الجوع بالكثير من زميلاتها إلى إجهاض حملهن بسبب سوء التغذية”.
وتبين الصحيفة أن “أمل كانت تريد إنقاذ جنينها، والخروج من البلدة هو الحل، فأخذت ابنتها البالغة من العمر 13 عاما معها، وبقي في البيت زوجها ياسين وابنتها الكبرى رهف (15 عاما)”.
ويشير التقرير إلى أن مضايا هي في مركز المعارضة لنظام بشار الأسد، وتبعد 15 ميلا شمال مدينة دمشق، وتعرضت للحصار من الجيش السوري ومليشيات حزب الله في تموز/ يوليو الماضي؛ انتقاما لسيطرة المقاتلين على فوعة وكفريا في محافظة إدلب.
وتوضح نافي أنه بناء عليه، فقد قامت المليشيات بمحاصرة سكان البلدة، البالغ عددهم 40 ألف نسمة، وقامت ببناء سياج من الأسلاك الشائكة حولها، وأقامت أكثر من 170 نقطة تفتيش، كان يحرسها مقاتلون من حزب الله وجنود النظام، الذين جهزوا مئات من الألغام حولها لمنع السكان من التفكير بالهرب.
وتلفت الصحيفة إلى أن مجلس الأمن شجب هذا النوع من حروب الحصار والتجويع في أيلول/ سبتمبر، وذلك في تحقيق اللجنة المسؤولة عن الحرب في سوريا، مشيرة إلى أنه عندما بدأت أمل رحلة الهرب مع ابنتها رغد من حي الهرق يوم الأحد الماضي، كانت السماء تثلج، وبدأتا بالمشي ببطء وسط الثلوج، وتبعهما آخرون، بينهم ولدان يبلغان من العمر 11 و 12 عاما، حيث أرسلتهما عائلتهما، ومشوا بصمت، وكانوا يستمعون لصوت الريح فوقهم.
وتقول الكاتبة: “كانت أمل أول من شاهد مقاتلي حزب الله ينتظرون، وقبل أن تلتفت للوراء وتحذر ابنتها وتطلب منها الهرب، أطلق المسلح النار، وقتلت رغد حالا برصاصة، فيما سقطت أمل على الأرض برصاصة أخرى. وحاول اثنان من المجموعة الركض نحوها، ولكنهما أصيبا بالرصاص عندما حاولا حملها، أحدهما زياد الغليون، الذي قتل، والآخر أخذه حزب الله ولم ير بعد. ووصلت الأخبار بعد ذلك إلى عائلة أمل، حيث حصلوا على إذن من حزب الله لاستعادة جثتها. وما لم يكن يعرفه مقاتلو حزب الله أن أمل كانت لا تزال على قيد الحياة، ولكنها كانت تنزف بشدة عندما حضر زوجها وابنتها رهف، وقد تم تجريدها من حليها، وحملاها إلى المركز الطبي في مضايا، الذي لم يكن سوى غرفة صغيرة، وحاول الطبيب إنقاذ حياة الجنين، ولكن دون جدوى لتموت الأم بعد ساعتين. وقال شهود عيان إن أمل كانت تتألم بشدة، ولم يكن يتجاوز عمرها 36 عاما”.
ويورد التقرير، الذي ترجمته “عربي21″، أن لا أحد يعرف مصير الولدين، فلا يزالان مختفيين. وينقل عن يوسف، صديق طفولة أمل، قوله: “كانت فتاة مبتهجة وتحب المزاح ومتواضعة”. وقبل أيام قليلة أرسل أصدقاء ليوسف، الذي يعيش لاجئا في مكان ما في الشرق الأوسط، شريط فيديو للجوعى من مضايا. وبدا فيه ولد وقد ظهرت عظامه وغارت عيونه، ولكنه لا يزال يبتسم، وأصيب يوسف بالفجيعة؛ لأن الولد هو ابن عمه خالد أحمد عيسى.
وتقول نافي: “سمعت قصة أمل من شام، التي خبأتني في بيت آمن عندما زرت مضايا لكتابة تقارير عن الأيام الأولى للثورة ضد بشار الأسد”.
وتضيف الكاتبة أن “شام (30 عاما) فقدت زوجها، الذي اختفى في واحد من سجون الأسد، وتعرف عن الكثيرين الذين قتلوا وهم يحاولون الهرب، ولا تزال هي عالقة في مضايا. وفي حديث على الهاتف مع شام قالت: (الهروب هو الأمل الوحيد للنجاة، ولدينا الكثير من القصص كهذه، وإن لم يمت الناس برصاص حزب الله أو الأسد، تقتلهم الألغام)، وأضافت شام: (لدينا الكثير من المشوهين الآن، والجميع يموتون من الجوع، والمدينة مليئة بالأشباح، فنحن موتى يمشون)”.
وتذكر الصحيفة أن عائلة شام استطاعت النجاة خلال الأشهر الماضية، باعتمادها على الأرز، حيث استخدمت ما وفرته لشراء كيلو الأرز بقيمة 200 جنيه إسترليني. ويتم تهريب الأرز من موالين لنظام الأسد. وتقول: “معظم من نعرف يأكلون الخشب والحشائش والأعشاب، ولم يبق شيء، حتى القطط والكلاب أكلت منذ وقت، ولن تعرفي المكان الآن”.
وتقول نافي إن “مضايا التي أعرفها هي بلدة صغيرة محاطة بالجبال، وكان يسكنها 13 ألف نسمة على نهر بردى. وفي طريقنا لها مررنا ببساتين التفاح والكرز والخوخ، وتم قطع الأشجار كلها الآن، وبيع خشبها لاستخدامه للطبخ”.
ويفيد التقرير بأن مضايا هي أول بلدة تنتفض ضد نظام الأسد، حيث ظل سكانها يتظاهرون طوال ستة أشهر، وبطريقة سلمية، طلبا للتغيير.
وتنوه الكاتبة إلى أن “البلدة مثل بقية البلدات الصغيرة، كانت مستقرة ماليا، وتعتمد على السياحة والزراعة، وقلة من سكانها كانوا يعملون مع الحكومة، ولهذا لم تكن تخشى من النظام. ونظرا لقربها من الحدود اللبنانية، فقد كانت مركزا للتهريب، وكان الكثيرون يأتون من دمشق لشراء السجائر المهربة والجينز والبضائع الكمالية وبأسعار رخيصة. ورغم عدم شرعية التجارة، إلا أن الحكومة غضت الطرف عنها. ويقول أحد سكانها: (لهذا السبب كان سكان مضايا ضد النظام، فقد شاهدوا فساد الحكومة عيانا، وكيف كانت الشرطة تتلقى رشاوى من المهربين، وكيف استفاد موظفو الحكومة من التهريب)”.
وتكشف الصحيفة عن أنه مع بداية معارضة البلدة للنظام، أخذت صور المعارضين المعتقلين لديه تظهر، وقد بدا عليها التعذيب. وكان سكان البلدة يأملون، رغم هذا كله بألا يعمر نظام الأسد طويلا. وقال ناشط: “أنظري إلى ليبيا وإلى الربيع العربي، لن يسمح العالم للأسد بأن يقتلنا”.
وتقول الكاتبة إن معظم من ساعد أمل إما قتل أو سجن أو اختفى، وقلة منهم نجوا، وكان من بين من ساعدها ممرضة، حيث نقلت أمل إلى هناك.
وتعلق نافي قائلة إن “صور مضايا هي عبارة عن مشاهد مروعة، فلا طعام ولا دواء ولا محلات ولا مدارس ولا بترول، ويبحث الأطفال الخائفون عن الطعام في أكوام النفايات، وشاهدت شام ولدا وهو يشرب بقايا زجاجة دواء كانت مرمية في مجرى للنفايات”.
وتضيف أن مضايا موزعة بين عدد من الفصائل: جبهة النصرة وأحرار الشام والجيش السوري الحر ومؤيدي النظام وعدد قليل من عناصر تنظيم الدولة. ويتجول فيها قطاع الطريق والمهربون، حيث زاد عدد سكانها الضعف، بعد فرار أكثر من 20 ألف شخص إليها من القرى المجاورة.
وتختم “صندي تايمز” تقريرها بالإشارة إلى أنه في الوقت الذي تقوم به المنظمات الدولية بالتفاوض مع النظام والمعارضة للسماح للمواد الغذائية الوصول للمحتاجين، إلا أن “من تحدثت إليهم لا يأملون بالكثير، فقد وعد النظام بالكثير في السابق، ولم يتحقق شيء”.
عربي 21