خيّمت سُحُب الحرب من جديد على إقليم ناغورني قره باغ بعد هدوء استمر منذ عام 2016، قبل أن يتجدد بشكل مختلف في يوليو (تموز) الماضي في منطقة بعيدة عن الإقليم المتنازع عليه والخاضع لسيطرة المتمردين الأرمن منذ تسعينات القرن الماضي.
عاد التوتر إلى جنوب القوقاز مرة أخرى، عندما قامت أرمينيا في 12 يوليو بمهاجمة أذربيجان بشكل مفاجئ، لكن بطريقة مختلفة. إذ كان مسرح الهجوم مدينة توفوز التي تقع بالقرب من ممر يصل بين أذربيجان وجورجيا وتركيا، وبجوار طرق النقل والشحن والطاقة. إذ يُنقل النفط والغاز من بحر قزوين إلى تركيا عبر هذا الممر من خلال خط أنابيب النفط «باكو – تبليسي – جيهان»، وممر الغاز الجنوبي لنقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا في إطار مشروع «تاناب»، بالإضافة إلى خط السكك الحديدية «باكو – تبليسي – كارص» الرابط بين الدول الثلاث. ولقد فتح هذه الهجوم الباب أمام كثير من التساؤلات، لأنه أعقب فترة هدوء وجاء بعد لقاء، عقد للمرة الأولى وجهاً لوجه خلال مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن في فبراير (شباط) الماضي، بين الرئيس الأذري إلهام علييف ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، الذي أعلن بعد ذلك عن خطط للحل السياسي للنزاع المزمن مع باكو حول ناغورني قره باغ.
الاشتباكات الدائرة حالياً، توسعت رقعتها في الأيام الأخيرة بعد أن طال القصف مدناً كبرى، بينها ستيباناكرت عاصمة إقليم ناغورني قره باغ، ومدينة غنجة ثانية كبريات مدن أذربيجان. ويتبادل الطرفان اتهامات بقتل المدنيين، في حين أعلنت إدارة الإقليم نزوح نحو نصف سكانه من الأرمن بسبب الضربات الأذرية. وراهناً، تحتل أرمينيا منذ عام 1992 نحو 20 في المائة من الأراضي الأذرية التي تضم إقليم ناغورني قره باغ المكوّن من 5 محافظات، إضافة إلى 5 محافظات أخرى غرب البلاد، وأجزاء واسعة من محافظتَي آغدام وفضولي. ولقد تسبب النزاع بين الجانبَين في تهجير أكثر من مليون أذري من أراضيهم ومدنهم؛ فضلاً عن مقتل نحو 30 ألف شخص.
اشتعال الأزمة
استمر التوتر بين أذربيجان وأرمينيا على مدى السنوات الست الماضية حول إقليم ناغورني قره باغ، الذي يشكل أساساً لصراع لن ينتهي إلا بحل النزاعات المجمدة. وكانت الاشتباكات الخطيرة والمحدودة بين القوات العسكرية للبلدين تحدث بشكل شبه يومي منذ صيف العام 2014. وظل الطرفان على حالة تأهب دائم بعد حرب الأيام الأربعة عام 2016، عندما قتل 94 أذرياً، بينهم مدنيان، و84 جنديا أرمنياً. ثم ساد نوع من السكون، تبين أنه كان هدوءاً يسبق العاصفة التي اندلعت مجدداً في 27 سبتمبر (أيلول) الماضي، والتي تتوسع دائرتها حالياً لتثير مخاوف من حرب إقليمية بسبب دعم قوى إقليمية لطرف ما على حساب الآخر.
أحد أسباب اندلاع الاشتباكات مجدداً على خط الجبهة في ناغورني قره باغ أرجعته حكومة أرمينيا في يريفان إلى «التحرك التركي المكثف لدعم أذربيجان»، الذي تطور إلى استعراض قوة في مواجهة أرمينيا عبر مناورات عسكرية واسعة أجريت ليوم واحد في جمهورية نخجوان الذاتية الحكم في 5 سبتمبر. ولقد شارك في هذه المناورات 2600 جندي و200 دبابة ومدرعة و180 نظاماً صاروخياً ومدفعية وقذائف هاون، و18 مروحية وأكثر من 30 نظاماً للدفاع الجوي، لتحييد أهداف عدوة مفترضة جرى تدميرها بالصواريخ وقذائف المدفعية. ثم نفذ الجنود عمليات هجومية، وقامت الوحدات العسكرية بعمليات إنزال وسيطرة على نقاط، وتدمير مدرعات وطائرات من دون طيار تابعة للعدو. وفي نهاية المناورات، نفذت المروحيات العسكرية طلعات استعرضت خلالها العلمين التركي والأذري.
رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان اتهم تركيا بتأجيج المعارك في إقليم ناغورني قره باغ من خلال دعمها لأذربيجان. وبدورها، حذّرت إيران من تحوّل النزاع إلى «حرب إقليمية»، منددة بانتشار جماعات مسلحة عند حدودها، بعد اتهام دول عدة لتركيا بنقل عناصر من مجموعات موالية لها في شمال سوريا للقتال إلى جانب قوات أذربيجان. أيضاً دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى وقف «المأساة»، وعبّر عن أمله في أن يتوقف هذا النزاع في أسرع وقت ممكن. وجاء موقف بوتين بعد قول موسكو إن نقل مقاتلين مرتزقة إلى المنطقة «ينذر بفتح جبهة جديدة للإرهاب»، وإعلانها أنها تدرس تصريحات للرئيس السوري بشار الأسد حول نقل تركيا عناصر مسلحة من الفصائل السورية الموالية لها إلى قره باغ على غرار ما فعلت في ليبيا. وحسب كلام باشينيان: «لولا التحرك الكثيف لتركيا لما بدأت هذه الحرب».
رفض التهدئة
في هذه الأثناء، جددت الأمم المتحدة مطالبتها الأطراف المعنية بضرورة الوقف الفوري للقتال على طول خط الجبهة بين أذربيجان وأرمينيا. إلا أن تركيا وقفت مع أذربيجان في صف رفض كل دعوات التهدئة ووقف إطلاق النار والتوجه إلى المباحثات بين طرفي الصراع. بل قللت تركيا من جدواها وركزت هجومها على «مجموعة مينسك» التي تقودها روسيا والولايات المتحدة وفرنسا. ورأت أن دعوة «المجموعة» لوقف «غير مشروط» لإطلاق النار تساوي بين المحتل (أرمينيا) والضحية (أذربيجان). كذلك، توجه وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو إلى باكو، الثلاثاء، غداة لقائه في أنقرة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «ناتو» ينس ستولتنبرغ، وهناك جدد دعم بلاده لأذربيجان والتأكيد على أن الحل الوحيد هو انسحاب أرمينيا من إقليم ناغورني قره باغ. وبينما أطلق ستولتنبرغ من أنقرة دعوة لوقف فوري لإطلاق النار، ردّ جاويش أوغلو بأن على «ناتو» أن يتصدر المجتمع الدولي في مطالبة أرمينيا بالانسحاب من أراضي أذربيجان.
في سياق متصل، أكد الاتحاد الأوروبي على لسان ممثله الأعلى للأمن والسياسة الخارجية جوزيب بوريل، أمام البرلمان الأوروبي الأربعاء، أنه لا يمكن حل النزاع في قره باغ إلا بجهود «مجموعة مينسك» (التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا)، مشدداً على ضرورة إعلان وقف إطلاق النار من الطرفين في أقرب وقت ممكن، والعودة إلى المفاوضات. ومع إقراره بأن المفاوضات خلال السنوات الـ30 الماضية لم تكن ناجحة، شدّد بوريل على أنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري للنزاع. وبينما حثت الدول الغربية تركيا، الحليف القديم الوثيق لأذربيجان، على استخدام نفوذها لدى باكو لاستعادة الهدوء، ردت أنقرة بأن «على قادة العالم أن يلقوا بثقلهم خلف أذربيجان، وأن وضعها مع أرمينيا على قدم المساواة يعني مكافأة المحتل».
مخاوف الحرب الإقليمية
في المقابل، فإن روسيا وإيران اتخذتا موقفاً مخالفاً للموقف التركي. إذ طالبتا بوقف إطلاق النار وحذرتا من نشوب حرب إقليمية وظهور بؤرة إرهابية جديدة في منطقة القوقاز، في إشارة إلى تأكيد كثير من الدول على قيام تركيا بنقل مرتزقة سوريين للقتال في ناغورني قره باغ إلى جانب أذربيجان، على غرار ما فعلت في ليبيا لدعم «حكومة الوفاق الوطني» في طرابلس.
من جهته، حاول الرئيس الأذري إلهام علييف تهدئة مخاوف إيران، مؤكداً لنظيره الإيراني حسن روحاني، في اتصال هاتفي بينهما الأربعاء، أن قواته سيطرت على مناطق محاذية لإيران وتنوي إقامة مراكز حدودية ونشر حرس الحدود. وبدوره، شدد روحاني على أن بلاده لن تتساهل مع وجود «إرهابيين» على حدودها بسبب نزاع ناغورني قره باغ، محذراً من تحوله إلى «حرب إقليمية». أيضاً قال روحاني، في كلمة متلفزة خلال اجتماع للحكومة الإيرانية: «من غير المقبول بالنسبة لنا أن يرغب البعض بنقل إرهابيين من سوريا وأماكن أخرى إلى مناطق قريبة من حدودنا تحت ذرائع مختلفة. كنا واضحين في إبلاغ جارتينا أذربيجان وأرمينيا بذلك… لا يجوز أن تتحول هذه الحرب إلى حرب إقليمية. الذين يقومون، من جهة أو أخرى، بصب الزيت على النار، لا يخدمون أحداً. يجب على الجميع القبول بالحقائق، القبول بحقوق الأمم، واحترام وحدة أراضي الدول».
من جهته، دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الأذري علييف إلى وقف «المأساة» الجارية التي لا يوجد أي مؤشر على تراجع حدتها. واعتبرها الزعيم الروسي «مأساة هائلة. هناك أناس يموتون. نأمل أن يتوقف هذا النزاع في أسرع وقت ممكن»، وقال لعلييف إنه «إن كان من غير الممكن وقف هذا النزاع بشكل نهائي، لأننا بعيدون عن ذلك، فإننا ندعو على الأقل، وأشدد على ذلك، إلى وقف لإطلاق النار»، مؤكداً أنه «ينبغي تحقيق ذلك في أقرب وقت ممكن». وبالفعل، وفي مقابل تأكيد تركيا دعمها لأذربيجان، أبدى رئيس الوزراء الأرميني «ثقته بأن روسيا ستساعد بلاده إذا ما تعرضت لهجوم مباشر». ومعلومٌ أن أرمينيا ذات الغالبية المسيحية، تنضوي في تحالف عسكري يضم دولاً سوفياتية سابقة بقيادة روسيا، التي تملك قاعدة دائمة في أرمينيا، لكنها لم تبدِ رغبة في التصعيد العسكري.
هذا، ووفقاً للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، يجب على القوات المحتلة الأرمينية مغادرة منطقة قره باغ، لكن الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا ليست متحمسة لفكرة انسحاب الأرمن. ويعتقد الخبراء أن سبب تساهل الدول الثلاث في التعامل مع أرمينيا، مرده نفوذ الشتات الأرمني الكبير الذي تستضيفه الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.
الصمت الأميركي
وفي المشهد الدولي أيضاً، مع تواصل الاشتباكات في ناغورني قره باغ وتصاعد احتمالات تحولها إلى حرب شاملة، تثور تساؤلات بشأن الصمت الأميركي غير المعتاد، الذي يرجعه مراقبون «جزئياً» إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكن الأمر قد يحمل دلالات أكثر عمقاً بشأن الدور الأميركي على المسرح الدولي.
كاري كافانو، السفير الأميركي السابق الذي كان مكلفاً بالمساعدة في حل النزاع بين الجمهوريتين السابقتين في الاتحاد السوفياتي (أذربيجان وأرمينيا) عبّر عن الحزن، ليس بسبب تجدد الاشتباكات في حد ذاته، وإنما لرؤيته تراجع الدور القيادي لبلاده على المسرح الدولي. إذ إن ذلك النزاع الذي يرجع أصله لنحو قرن من الزمان أدى لتشكيل لجنة من الأمم المتحدة عام 1993 تضم الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا بهدف المساعدة في حسم الصراع بالطرق الدبلوماسية، في إطار «مجموعة مينسك»، لكن الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت قبل أسبوعين تشهد غياباً أميركياً كاملاً عن المشهد.
كافانو، الذي تحدث لصحيفة «التايمز» البريطانية، قال إن الولايات المتحدة لم تشارك في المناقشات ولا التنسيق ضمن اللجنة المعروفة باسم «مجموعة مينسك». وبذا ينضم السفير الأميركي السابق إلى مجموعة من المراقبين يرون في هذا الغياب تراجعاً للدور الأميركي على المسرح الدولي منذ وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض ورفعه شعار «أميركا أولاً».
وبدوره، تهكم توماس دي فال، الباحث البارز في معهد كارنيغي – أوروبا، على موقف واشنطن، قائلاً: «إن الأميركيين انسحبوا من تلك القضية، ولو كان ترمب سمع عن أذربيجان من الأصل، فالسبب هو أنه أراد بناء أحد أبراجه على أراضيها»، في إشارة لجهل الرئيس الأميركي بالمنطقة وأسباب الصراع فيها بين البلدين. وحقاً، كان صمت إدارة ترمب لافتاً بالفعل، حتى إن وزير الخارجية مايك بومبيو لم يعلق على الاشتباكات التي أوقعت عشرات القتلى، بينهم كثير من المدنيين، إلا عندما سئل عنها خلال إحدى مقابلاته التلفزيونية وكانت إجابته محايدة تماماً ولم تحمل أي التزام بمحاولة التدخل.
واللافت أنه منذ وصول ترمب إلى البيت الأبيض، انسحبت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان من قضايا دولية، بعكس الإدارات السابقة، وخاصة في المناطق التي تقع ضمن نطاق التأثير الروسي. وتجنب ترمب إصدار أي بيانات قد تزعج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يعود الانسحاب الأميركي من النزاع بشأن إقليم ناغورني قره باغ، الذي تحتله أرمينيا منذ 30 سنة، وهو سبب الصراع في المنطقة، والذي تصر أذربيجان على تحريره، إلى أغسطس (آب) عام 2017. أي في العام الأول لترمب في البيت الأبيض، عندما عيّنت الإدارة ممثلاً جديداً لها في «مجموعة مينسك»، هو أندريه شوفر، ولكن من دون أن تمنحه لقب سفير ما جعله أقل رتبة من نظيريه الروسي والفرنسي.
واعتبر كافانو في ذلك خطراً كبيراً على الجهود الدبلوماسية في منطقة مضطربة وتشهد نزاعاً مسلحاً ممتداً؛ حيث إن الحفاظ على التوازن في التعامل مع القضية من الجانب الأميركي يعطي ثقة لأذربيجان وأرمينيا في حيادية وجدية «مجموعة مينسك». أما هذا التراجع الأميركي فقد أعطى إشارات خاطئة كانت نتيجتها تجدد الاشتباكات المسلحة.
مكمن الخطورة
تدعم روسيا أرمينيا، بالأساس، رغم أنها الطرف المعتدي والرافض لـ4 قرارات أممية تطالبها بالانسحاب من الإقليم وأراضي أذربيجان الأخرى التي تحتلها، والتي تبلغ 20 في المائة من مساحة أذربيجان. وبالتالي، كان الدور الأميركي يمثل توازناً مطلوباً لإقناع الجانبين بالتوصل لتسوية سلمية للنزاع.
وبإضافة الانحياز الفرنسي لأرمينيا في الاشتباكات الدائرة حالياً لأسباب لا علاقة لها بأذربيجان بشكل مباشر، بل لموقف شخصي للرئيس إيمانويل ماكرون المعادي لتركيا ورئيسها رجب طيب إردوغان، يصبح الانسحاب الأميركي أكثر خطورة. لأن هذا الوضع لا يترك مجالاً للدبلوماسية، بل يهدد بتحول الاشتباكات إلى حرب شاملة قد تنضم لها قوى إقليمية أخرى كتركيا الداعمة لأذربيجان وروسيا وإيران الداعمتين لأرمينيا في صراع معقّد ومتشابك الجذور.
ومكمن الخطورة في صراع ناغورني قره باغ هو أن الحدود بين أذربيجان وأرمينيا هي أكثر المناطق تسليحاً وسخونة في أوروبا والعالم. ومع وجود مصالح لروسيا وإيران وتركيا، فإن استمرار الاشتباكات الحالية وتطورها قد يدفع الأمور للخروج عن السيطرة كما حدث في الحرب العالمية الأولى لينقلب الصراع الثنائي إلى نزاع إقليمي واسع.
وللعلم، تعد منطقة جنوب القوقاز شرياناً حيوياً للغاز والنفط من أذربيجان إلى تركيا ومنها إلى أوروبا وباقي أسواق العالم. وتوفر أذربيجان نحو 5 في المائة من حاجة أوروبا من النفط والغاز وتساعد على تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على روسيا. وعام 2016 كادت الاشتباكات في المنطقة تصل إلى عدد من خطوط الأنابيب، وهو ما تكرر في الحرب الحالية.
نقلا عن الشرق الأوسط