يُصرّ على إكمال العمل الجراحي للمريض تحت الأرض، يسابق الزمن لإنقاذ حياة المصاب، تتسارع نبضات قلبه، يستنشق غاز الكلور الذي ألقته طائرة مروحية، يرفض أن يستنشق الأكسجين من الكمامة المخصصة للمريض المخدر، يستشهد الطبيب علي الدرويش، بغاز الكلور ويشفى المريض.
في حلب، يستلقي الطبيب عبد الحي الإبراهيم، فوق مريضة مخدرة تخضع لجراحة، ليحميها بجسده من الشظايا والحجارة المتطايرة، ثم يكمل العمل الجراحي على ضوء الهاتف، بعد ساعات طويلة من البكاء، يودع مدينته، ليكمل رسالته الإنسانية في ريف إدلب، أما عميد الأطباء حسن الأعرج، فإنه فقد حياته وهو يحاول الوصول إلى مشفى المغارة القريب من خطوط الاشتباك، لإنقاذ حياة مصاب في غرفة العمليات.
يعيش 600 طبيب في شمال سورية، ليقدموا الخدمات الطبية لأربعة مليون شخص، في ظروف حياتية صعبة، يحاولون البقاء، على الرغم من التحديات والصعوبات الكبيرة، يتوقعون الموت في كل لحظة، بسبب الاستهداف المستمر للمشافي، يعيش ذووهم في حالة قلق دائم عليهم، فقدوا القدرة على ضبط وقتهم والتخطيط لحياتهم، ابتعدوا عن أسرهم وحياتهم الخاصة، فالحالة الحربية الدائمة والمستمرة منذ ثماني سنوات جعلتهم في حالة طوارئ دائمة، بالرغم من التسهيلات والامتيازات التي قد يحصلون عليها إذا غادروا البلاد، واجبهم الإنساني وشعورهم بالمسؤولية يحفزهم على البقاء، والتضحية لأجل الجميع لأجل قيم سامية أمنوا بها.
يبكي، نبكي معه، نسمعه، نصور عيونه الغارقة بالدموع، يحاول استرجاع ذكرياته، لينقل لنا ما شعر به وعاشه، الدكتور عبد الحي الإبراهيم (62 عامًا، حلب، جراحة نسائية) قال لنا: “خرجتُ مع المهجرين قسرًا من حلب إلى ريف إدلب، ركبت باص الذل الأخضر، نهاية عام 2016، أُجبرت على توديع كل شيء غالٍ على قلبي: بيتي، مكتبتي، أثاث منزلي، ذكرياتي، هدايا زواجنا، بعد صمود خمس سنوات تركت تاريخي وقلبي هناك، وقفتُ أبكي أنا وابني المصاب حسن، حاولنا أن نواسي بعضنا، سخر منا جنود النظام ونحن خارجون، استخدموا كل أساليب الإذلال، تمنّيت الموت قبل أن أصل إلى الطرف الغربي من حلب، جمعوا بعض الناس لشتمنا ونحن خارجون، وصفونا بالإرهابيين والخونة، فقط لأننا طلبنا الحرية لنا ولهم، بعض الجنود على الحواجز كانوا يقومون بأفعال منافية لكل الأعراف والقيم”.
يمسح دموعه ويستجمع قواه، ثم يُكمل: “في بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2016، خرجت جميع المشافي عن الخدمة، وبقيت مشفى القدس الوحيدة في حلب الشرقية، أسعف إلى المشفى في يوم واحد ألف حالة، تم تحويل 282 حالة إلى العمليات، لدينا خمس غرف عمليات وثماني أسرة في غرف الجراحة العامة، كنا نُجرى فيها عمليتين في وقت واحد، وكان ذوو الإصابات الخفيفة يُساعدون في عملية الإسعاف، وبعد عمل ثلاث أيام متواصلة في غرفة العمليات، خرجت إلى باحة المشفى، صدمتُ من عدد الجثث في الساحة، وعلمت أنه استشهد 45 شخصًا في ذاك اليوم، ليس لدينا حياة شخصية أبدًا أو اجتماعية، مرّ 18 عيدًا، اثنان منها فقط قضيتها مع عائلتي المكونة من تسعة أولاد، أعرف أخبارهم من مجموعة (وتسأب) المخصصة للعائلة، تغير كثير من عاداتي، في حلب كنت أناوب في مشفى الزهراء والقدس، بعد الخروج من حلب حتى الآن أعمل في ثلاثة مشاف، بسبب نقص الكوادر.. أوقات فراغي شبه معدومة”.
حلا عبد الحي الإبراهيم (34 سنة ناشطة) أكملت الحديث عن والدها، بعد أن تعب، قالت: “رهن أبي حياته ووقته للعمل الطبي، يغيب عنا لأسابيع، يعود في بعض الأحيان وساقاه متورمتان، وينام وهو يتناول طعامه من شدة الإرهاق والتعب، يأتي لليلة واحدة إلى المنزل، ونجلس معه أقل من ساعتين، وهو دائم القول: الناس بحاجتي، وإنقاذ الأرواح أهم من حياتي، فلا تطلبوا مني أن أريح نفسي أو أزوركم أو أسأل عنكم”.
اعتقلت (داعش) أخي وائل، وهو أب لستة أولاد، أعدموه في مدينة الباب، بتهمة الردة وحمل علم الثورة، بسبب انشغال والدي والدتي المسنة تحملت لشهور مهمة شاقة وخطرة، وهي البحث عنه بين المدن وفي سجون (داعش) الكثيرة، قبل أن نتأكد من إعدامه في مدينة الباب شمال حلب، والدي ينسى نفسه فلا يذكر أتناولَ طعامه أم لا! هو دائمًا جائع متعب.. بعد عام 2012 لم أره ولا مرة بغير لباس الطوارئ، لم يعش يومًا واحدًا كما يعيش البشر”.
التقيت عميد الأطباء حسن الأعرج (42 عامًا -كفرزيتا- جراحة قلبية)، في 10 نيسان/ أبريل 2016 قبل موته بثلاثة أيام، أجريت لقاءً مسجلًا معه، لم ينشر حتى الآن، في المشفى الذي قُتل على بابه، قال لي: “أشعر بأني ملك لعملي وواجبي الإنساني، وليس لأسرتي أي حق بوقتي، قتل 56 شخصًا من أقاربي ولم أستطع المشاركة بواجباتي اتجاههم، ومنهم خالي وابن أختي وإخوة زوجتي، أكثر ما يحرق قلبي كلام ابنتي الصغيرة آمنة، بكل اتصال معي تنهي حديثها بالقول: (بابا داوي كل الجرحى، واقتل العصابات وتعال لعنا اشتقنا لك كثير)، عائلتي تقبلت فترات غيابي الطويلة عنهم وساعدوني كثيرًا للبقاء داخل سورية، وهم في تركيا، كان عندهم هاجس يومي هو العودة للبلد والبقاء قريبين مني، لكن استحالة الحياة في منطقة عملي (كفرزيتا) تمنعني من أن أحضرهم، أنا أنام وأعيش أغلب الوقت تحت الأرض في هذه المشفى وقريب من خطوط الاشتباك، نحن وسط المعارك وتحت القصف الدائم عليها من قوات النظام السوري”.
يكمل بعد تنهد طويل: ” في نيسان/ أبريل عام 2012، أسعف لنا شاب مصاب بطلق ناري في بطنه من بلدة مورك القريبة، بطريقة سرية أدخل للمشفى خدرناه، فتحنا بطنه، في هذه الأثناء انفجر لغم أرضي بدورية لقوات النظام السوري بالقرب من المشفى، فقام الجيش بتطويق المشفى وإحضار خمسة جرحى منهم إلى المشفى لتقديم الإسعافات الأولية لهم، قمنا بإخفاء المصاب وهو مخدر، في غرفة نوم الممرضات، في هذه الأثناء، شعرت بأن حياتي انتهت وسوف يتم اكتشاف أمرنا، وعندها بالتأكيد سوف تتم تصفية المصاب ونحن داخل المشفى، كنت مرعوبًا وصور أبنائي لا تفارقني وأفكر كيف سيعيشون دوني، مرت ساعة لا يمكن أن أنساها، قدمنا لهم إسعافات أولية، وأنا أرتجف والرشاشات والقنابل فوق رؤوسنا، والشتائم تملأ أرجاء المشفى علينا وعلى أهل بلدتي (كفرزيتا)، ومن الأحداث التي لا يمكن نسيانها، في 15 أيار/ مايو عام 2012 قام النظام بإطلاق النار على متظاهرين بوجود المراقبين العرب في خان شيخون، أسعف إلى المشفى 30 جريحًا معظمهم في حالة خطرة، حاجز قوات النظام قريب، ويمكن أن يفجروا المشفى بمن فيها في حال علموا بالمصابين، كنت بمفردي في المشفى الذي لا يحوي سوى معدات بسيطة جدًا، شعرت بالعجز لم أعد أعرف من أين أبدأ، مرّت ساعات لم أعد أذكر كيف مرّت، مات 5 جرحى منهم، وأنا أحاول إنقاذهم، نسيت الخوف من الحاجز ونسيت أسرتي في تلك اللحظات العصيبة، كان هاجسي الوحيد إنقاذ هؤلاء الشباب”.
نجوى الأعرج ( 38 عامًا زوجة الدكتور حسن ) قالت لنا: “أنا فخورة بتضحية زوجي وتفانيه، فخورة بموته على باب المشفى وهو يحاول إنقاذ الناس، كان صبورًا ويحمل هموم الناس، مرت علينا شهور لا نراه هو في المشافي الميداني، ونحن نتنقل من بلدة إلى أخرى مع أهله هربًا من القصف، عندما يزورنا يكون متعبًا حتى إنه ينام وهو يلاعب أبناءه، بعد خروجنا لتركيا أصبحنا نتواصل معه عبر (سكايب)، الأولاد يتدافعون على من يحدثه أولًا، كان دائمًا يحثهم على الدراسة والمتابعة، عندما يزورنا في تركيا بعد انتظار طويل لنا له، يمضي غالبية وقته على الكمبيوتر، يتابع المشافي ومديرية صحة حماة، حتى أثناء قيادة السيارة، يتكلم مع الكوادر والطواقم الطبية، كان دائم القول: لا أستطيع ترك سورية، لأن الطبيب الذي يخرج سوف يبقى مكانه فارغًا، فقدناه في 13 نيسان/ أبريل 2016، بعد استهداف مدخل المشفى من قبل طائرة حربية روسية، وسمي المشفى فيما بعد باسمه. نعم فقدنا طبيب القلبية، فقدت الزوج الذي طالما انتظرناه، ليعود لنا، ترك لي خمسة أولاد أكبرهم عمره 17 سنة، وأعمل جاهدة لأحقق حلمه بأن يكون أبناؤنا أطباء، أثمرت جهودي هذا العام ودخل ابني الكبير كلية الطب. ”
الدكتور محمود المطلق عثر عليه أهله على حافة طريق مغمًى عليه وعلى جسده جروح عميقة نازفة، بعد أن دفع فدية مقدارها 150 ألف دولار لعصابة خطف للنشطاء، لم ترحمه تضحياته، أما الدكتور أحمد غندور فقال: “أتوقع الموت في كل لحظة، لذلك كنت أرفض فكرة الزواج وإنجاب الأطفال، حتى لا أترك خلفي أسرة معذبة، سبع سنوات وأنا أقيم في المشافي حيث أعمل لا حياة شخصية لي، منذ سنة ونصف فقط تزوجت، بعد أن تجاوز عمري 41 عامًا”.
أنهى الطبيب عبد الحي كلامه معنا بجملة لا تُنسى، إذ قال: “أنا بدي موت هون.. بدي أندفن تحت ركام المشفى اللي أشتغل فيه.. بدي موت وأنا لابس مريولي الأبيض وحامل السماعات بيدي”.
قصة خبرية /أكرم الأحمد
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع