بعدَ عامين من البذلِ في سبيل أن تدرس الطب في تركيا، تعودُ صبا “اسم مُستعار” (٢٣ عاماً) إلى إدلب لِتُحقق حُلمها، تاركةً خلفها الأهل والأحبّة لتعيشَ غربتها في المكان الذي وُلدت فيه!
تُخبرني والدتها بأنّها حاولت جاهدةً للتقديم إلى الجامعاتِ التركيّة، درستِ اليوز “YOS”، اللغة التركيّة، معدلها يؤهلها لذلك.. ولكن لم تحصل على مقعدٍ جامعيّ! وتعود صبا أدراجها للكفاح من جديد، مضحيةً بسني عُمر لتحقيق حلمها.. ولكنها، ستواجه معاناة الاعتراف بشهادتها بعد التخرّج.
قالت لي صبا “اسم مُستعار” بأنّها حاولت السفر إلى ألمانيا لتدرس برفقةِ أخيها، وأضافت بحرقةٍ: “نحنا عم نتعلّم التشريح على جثث “ضحايا الحرب” ومرات عناصر للنظام، كنا نخاف بالبداية ونزعل كتير بعدين تعودنا بدنا نتعلّم، وبالرغم من تعبنا وكفاءة المنهاج ما في اعتراف لشهاداتنا “.
كان الآلاف من الطلبة السوريين في الشمال السوري قبل عام 2019 يعيشون أرق البحثِ عن المستقبل المفقود، لأن المدارس والجامعات التابعة للائتلاف آنذاك تفتقرُ لاعترافٍ دولي، فضلاً عن إيجاد فرص عمل مناسبة.
تقفُ والدة صبا طِوال هذهِ السنوات التي تأبى أن تنتهي منتظرةً للحظة التّخرج، وتعلمُ مسبقاً بأنّ ابنتها لن تستطيع العمل في مؤسساتٍ رسميةٍ بشهادتها من “جامعة إدلب” ولكن الأم لا تريدُ أن تقف في طريقِ سعادةِ ابنتها، أن ترغمها على مالا تُحبه.
تلمحني في العمل، والدة صبا طيّبة حنونة، تفيضُ المشاعر من جوارها، أشعرُ بها دائماً، وتلمحُ بي طيفَ ابنتها البعيدة، أنا أيضاً عِشتُ سنوات الغربة الطويلة أثناء دراستي مثلُ “صبا”، تتأمّل ابتساماتي وكأنّها ترى الأمل بأنها وبعد هذه السنوات ستجدُ ابنتها قريبةً منها مُحققة حُلمها وذات مكانةٍ، تُسرعُ إلى عيادتها صباحاً، ترتدي مريولها الأبيض وتُساعدُ الأطفال المرضى كما تمنّت دائماً.
من تركيا تعيشُ الأم مأساة الحربِ والقصف في الشمال السوريّ، فكلّ قذيفةٍ تقع في إدلب بالقربِ من سكنِ ابنتها كأنَّما وقعت في منتصفِ بيتها.
وعقب كُل تصعيد عسكريّ هناك تقضي الأم الليل قلقةً تنتظرُ ردّاً من ابنتها، شبكة الاتصالِ لا تعمل.. عشراتٌ من المكالمات.. تردُّ صبا بعد ساعاتٍ من القلق الذي أرهق والدتها.
صبا: ألو ماما، أنا بخي…
الصوتُ يتقطّع..
تُعاودُ معاناة الاتّصال، تبكي الأم، تلومُ نفسها..
تجلسُ على الكرسيّ متعبةً، “ليش خليتها تروح؟”
يأتي الزوج، رسالةٌ صوتيّة من صبا:
“القصف بجنبنا كان، بس أنا بخير.. الانترنت ضعيف ما عم أقدر أسمعكم، عم يقولوا بكرة رح يضل شغال القصف، لا تقلقوا علي مارح انزل عالجامعة”، تتنهدُ الأم تعبها.. وتعودُ لِسُجّادةِ صلاتها، تدعو الله أن يحمي صبا، هذا كلّ ما تملكه.
بتاريخ ٤ أكتوبر ٢٠١٩ أصدر “أردوغان” مرسوماُ يقضي بافتتاح كليّاتٍ تابعة لجامعاتٍ تركية ومنها جامعة غازي عنتاب في الشمال السوري، مما جعل عبء الاعتراف بشهادات الطلبة السوريين في الشمال أخفّ وطأةً، ولكن هذا القلق لم يتبدد بالنسبة لِطُلابِ جامعة إدلب، تواري والدة صبا الحُزن خلف صبرها، القلق والأرق، ودائما ما نجدها تفقدُ شيئاً ما، ابتساماتٌ شاحبة وتملأ وقتها كلّه في العمل، ترى انعكاس صورةَ ابنتها فيّ، وأرى بها وجه أمّي حينما بعدتُ عنها، كم آذينا أمّهاتِنا بأحلامنا! لو كُنّا نعلمُ كيف تتفتتُ أكبادَ الأمّهات ما ابتعدنا عنهنّ يوماً، لاستبدلنا الأحلام رأفةً بقلوبهن.. ولكن كيف لنا أن نعلم؟ ودائماً ما تُخبّئ الأم حزنها خلف الصبر وتُخبرنا ألا عليكم، امضوا فيما تُحبّون!
تعودُ صبا في بداية 2020 لقضاء الإجازة عند أهلها في تركيا، يُغلق المعبر، تؤجل لفصلٍ دراسيّ آخر!
وتتراكمُ عليها المواد الدراسّية، سنوات العمر والغربة، ولا تزال تحاول أن تكون الطبيبة التي تحلمُ.
بقلم : مريم الرحيمة
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع