في ذلك اليوم الشتوي العاصف، تتسابق الغيوم السوداء في التخفي و التراص بين بعضها البعض، لتُحوّل ملامح النهار ليلاً، الجميع حول مدافئهم، شوارع خالية من الروح إلا من بعض القطط الشاردة، تحدثني غيداء عن تلك الفاجعة بذلك اليوم العصيب منذ سبع سنين مضت، واضعة يديها على صدرها بادئة بتنهيدة نبعت من أعماقها.
تعرّض أبي لظلم كبير من أمي و إخوتي، فقد كان يقضي أيامه دون طعام أو غطاء إذا لم أسعف طلبه خفية، خوفا من قساوة إخوتي و أمي، إذ كنت الوحيدة التي أقف بجانبه لأن ذنبه الوحيد أنه عاطل عن العمل، متغاضين عن حنانه و عطفه و أبوّته و رجولته، فقد دمروا كيانه و مسحوا كرامته بشتى الوسائل.
أتذكر ليال كثيرة كان يباتها بمسجد الحارة القريب، لعله أكثر دفئا من بيته و مسكنه و عائلته، كان عمل والدي رئيس مخفر و له مكانته لكن بعد أحداث طرأت، ترك عمله و بقي في المنزل لتكمل والدتي العمل في الخياطة و يكون المصروف تحت إشرافها، و في أي فرصة تسنح لها تلومه ” بعديم الفائدة “.
و في أحد الأيام من كثرة الضغط الذي عاناه، ما كان بيده إلا أن عاد إلى عمله كشرطي بالخفاء في مدينة جسر الشغور، حيث كان آنذاك من يعمل شرطياً خارج المحرر، فقد أجزم أنه عميل للنظام و جاسوس، و وجب ذبحه.
ترتجف غيداء قائلة لم يعلموا حال أبي المسكين و ما الذي أوصله إلى هناك، تقول : سمعت حديثاً لأمي و إخوتي عن سر تغير والدي وغيابه المتكرر لأنهم لم يكونوا على علم بعودته إلى العمل و كان الإتفاق أن يذهب أخي “علي” لمراقبته صباحاً و بالفعل تم ما أرادوه و أصبح عندهم علم عن مكان عمله، وإذا بهم قد أرسلوا خبراً لمختصين بتلك الأمور على قولهم” ليؤدبوه ” .
و بالفعل ذاك ما حصل على أحد الحواجز، تم اعتقاله، يكمد وجه غيداء و تحمر عيناها الواسعتان، لتذرف تلك الدموع بقهر لقد عاد أبي لبيته مذبوحاً، مقطوع الرأس، تشهق هواء الغرفة و لا يسع حرقتها، أتذكر ذاك اليوم بأدق تفاصيله عندما رأيت رأس والدي مقطوعا، دارت في ذهني أحداث سنين في لحظة واحدة، والأرض تأخذني يمينا و شمالاً، رأيت أمي و إخوتي يبكون.
تمسح غيداء دموعها عن وجنتيها مواسية نفسها، ربما أرادوا إشباع غرورهم و سلطتهم عليه، لا أدري فالندم يلاحقهم إلى اليوم، فكلما نظرت في أعينهم أرى نظرة والدي المكسورة.
أيّ ظلم و تجبر يوصل إنساناً إلى نحره و مِن مَن؟ أبناؤه وشريكة دربه، فكما يقال في كل بيت سرّ و قصة و حكاية، و ربما جريمة و عقاب و ندم …
بقلم : سهير إسماعيل