منذ بداية الألفية الثالثة، والحديث لا يتوقف عن الشرق الأوسط، سواء على المستويات الرسمية، أو في أروقة مراكز البحوث والدراسات في العواصم الكبرى، وفي مقدمتها واشنطن. بدأ الحديث عن شرق أوسط كبير، ثم عن الشرق الأوسط الأوسع. وأخيراً، استقر الحديث عن شرق أوسط جديد.
والهدف المعلن كان إعادة هيكلة هذه المنطقة التي تشكلت على قاعدة اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة في 1916، وما تلاها من تفاهماتٍ بين القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والتي على أساسها تكونت الكيانات السياسية المختلفة، وكانت قائمةً عندما انطلقت دعوات إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط، والتي يضمها ما تعرف بمنطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.
وأياً كانت دوافع أميركا والغرب إلى ذلك التوجه، إلا أن أخطر ما أفرزته تلك الدعوات هو ما أعلنته كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي في ذلك الوقت، أن وسيلة تغيير ذلك الشرق الأوسط، هو إيجاد حالة من الفوضى العارمة في بلدان الإقليم، تهدم الكيانات القائمة لتقوم على أنقاضها الكيانات الجديدة التي ستشكل الشرق الأوسط الجديد، وأطلقت على ذلك الأسلوب مصطلحاً غريباً هو الفوضى الخلاقة.
ومنذ انطلقت تلك الدعوات، وأقرتها مجموعة الدول الصناعية الكبرى الثماني، في مؤتمر قمتها في كندا 2002، ومنطقة الشرق الأوسط تشهد حالةً غير مسبوقة من الصراعات الإقليمية غير التقليدية، وعمليات تدخل عسكري خارجي، بلغت ذروتها في الغزو، كما حدث في حالة العراق 2003، وحالات اضطرابات داخلية حادة، وظهور جماعات وحركات متطرفة ترفع شعارات الجهاد، وتمارس العنف المسلح والإرهاب، وتزايد على حركات المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، وتؤدي إلى خلط الأوراق، وفي ذلك المناخ المضطرب، وتحت قهر الشعوب على يد النظم السلطوية والشمولية، بدعوى الحفاظ على الاستقرار، بينما كان الحقيقي الحفاظ على تلك النظم نفسها، انطلقت ثورات الربيع العربي، والتي تعرضت لضرباتٍ مضادة عنيفة وشرسة، زادت من حالة التصدّع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلدان كثيرة في المنطقة.
وهكذا بعد أقل من عشرين عاماً على الدعوة إلى تشكيل شرق أوسط جديد، لم يعد الشرق الأوسط القديم كما هو، ولم يتشكل ذلك الشرق الأوسط الموعود، ودخلت دوله وشعوبه في دواماتٍ من المشكلات المعقدة التي لم تعد محتملة، لا محلياً ولا إقليمياً، ولا دولياً، لأن تلك الحالة تمثل تهديداً للمصالح الحيوية لجميع الأطراف.
والأمثلة واضحة، فإذا بدأنا بالدول الأكثر سخونة، مثل العراق، وهو أول دول المنطقة التي بدأ فيها تطبيق حالة الفوضى الخلاقة، بعد ثلاثة عشر عاما من الغزو الأميركي وسقوط صدام حسين ونظام البعث، لا زال يعاني من الانقسام الداخلي والتمزق الطائفي، وظهور أخطر الجماعات المتطرفة، متمثلةً في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بالإضافة إلى مشكلاتٍ إقليمية تارة مع المملكة السعودية، وتارة مع تركيا، وتحالفات تسهم في حالة الاضطراب الإقليمي مع إيران، ومع نظام بشار الأسد في سورية.
وسورية بعد خمس سنوات من الثورة التي تحولت إلى حالة اقتتالٍ، تدخلت فيه دول وقوى وتيارات وحركات وافدة من اتجاهات عديدة، ومن سورية إلى جارتها السعودية، حيث نجدها في حالة اشتباكٍ سياسي حاد مع إيران، وصل إلى حد قطع العلاقات وسحب البعثات، وحالة اشتباك عسكري في اليمن، وسعي نحو بناء تحالفاتٍ إقليمية جديدة، واليمن نفسها، وهي محل الصراع المسلح، أصبحت ساحةً للتدخلات والصراعات الإقليمية والدولية، وهناك الموقف الملتبس في ليبيا، ودور المبعوث الأممى المدعوم بقوة من الاتحاد الأوروبي، حيث وصل الأمر إلى حد وجود ثلاث حكومات، بالإضافة إلى وجود عناصر من تنظيم الدولة في بعض المناطق في شرق ليبيا وغربها! وإذا انتقلنا إلى أكبر دول الشرق الأوسط القديم، مصر، نجدها تتعرّض لمجموعة من المشكلات الحادة، في مقدمتها المشكلة الأمنية المتعلقة باستمرار عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في شمال سيناء وتناميها، والحوادث الكبرى ذات الانعكاسات السلبية، كحادث إسقاط طائرة الركاب الروسية، ومقتل سياح مكسيكيين في رحلة سفاري، وتعذيب الباحث
الإيطالي، چوليو ريچيني، ومقتله. هذا بالطبع إضافة إلى ملف حقوق الإنسان ومشكلاته العديدة، وحالة الاستقطاب المجتمعي الحاد بين مؤيدي النظام القائم ومعارضيه، ودعاوى ومشكلات الشرعية والاتهامات بالتفريط فى الحقوق في مياه النيل، وفي السيادة على بعض المناطق، كما حدث في قضية جزيرتي تيران وصنافير، بالإضافة إلى توتر العلاقات مع بعض القوى العربية والإقليمية الإسلامية، ذات الأهمية في التحالفات العسكرية والاستراتيجية التي تقودها المملكة العربية السعودية، وهي قطر وتركيا، وأيضاً التباس العلاقات مع حركة “حماس” ذات الأهمية بالنسبة إلى تلك التحالفات، وتأتي فوق ذلك كله المشكلة الاقتصادية الحادة، وتدهور قيمة الجنيه المصري. وباقي دول منطقة الشرق الأوسط ليست في أحسن الأحوال، سواء الدول الإقليمية الرئيسية، تركيا وإيران، أو باقي الدول العربية.
فهل وصلت حالة الفوضى في المنطقة إلى الدرجة التي يمكن أن تكون خلاقة، أي يتمخض عنها الشرق الأوسط الجديد الذي بشرت به أميركا والدول الغربية، منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، أم أن الشرق الأوسط قد بلغ حالة من الفوضى غير الخلاقة، لم تعد مقبولة بأية حال، ولا بد من الانتقال إلى حالة من الهدوء والاستقرار المبنيّ على درجةٍ من التوافق، والحلول الوسط التي يتم فرضها على الجميع، بصرف النظر عن طموحات الأطراف المختلفة.
بمعنى آخر أكثر وضوحاً، هل الشرق الأوسط مقبل على عملية تسوياتٍ كبرى لكل الملفات المفتوحة، في دوله، وبين كل دوله؟ وهذا هو الأقرب، من وجهة نظر أكثر المراقبين والمحللين المتابعين تطورات الأحداث والمواقف في المنطقة. ولكن، يبقى السؤال الأهم، وهو هل ستكون تلك التسويات بمعزل عن الشعوب وفي غيابها عن المشهد؟ وهو الأرجح في ظل ما نشهده من أحداث بالفعل، كما حدث عندما طالعتنا الأخبار بوجود وفد من الحوثيين في الرياض، يجري مباحثات تسبق اجتماعات الكويت بين الأطراف اليمنية المختلفة.
وعندما خرج خبر توقيع مصر والسعودية على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في خليج العقبة، وتسليم جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، وسط الأخبار عن التوقيع على سبع عشرة اتفاقية ثنائية، لم يسبق طرح مضمون أي منها على الرأي العام، ومثل الأخبار التي تتسرب عن تدخل سعودي، على أعلى مستوى، للمصالحة بين مصر وتركيا على مستوى القمة، وعن تسوياتٍ في العراق وفي اليمن وفي ليبيا. وفي الشأن الفلسطيني بين حركتي “فتح” و”حماس”، وحتى مع العدو الإسرائيلي، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية. وأيضاً في مجمل العلاقات العربية الإسرائيلية، مثل انتقال تعهدات مصر لإسرائيل فيما يتعلق بحرية وتأمين الملاحة في خليج العقبة ومضيق تيران إلى المملكة العربية السعودية، وهو ما أعلنته مصر، ويعني مشاركة السعودية ضمنياً في معاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي.
قد تحدث كل تلك التسويات الكبرى في المنطقة. ولكن، في غيبة الشعوب، وتفرض عليها، ولكن لا أحد يمكنه ضمان استمرارها، لأن الشعوب لا تنسى حقوقها، التي تسلب منها في فترات قهرها، وهوانها، مهما طال الزمن. .. هكذا علمنا التاريخ.
العربي الجديد – عادل سليمان