من كل صور مدينة حلب الدامية للجثامين المقطعة، والأشلاء المتناثرة، والدماء التي تسيل وتسيل وتسيل طوال الأيام القليلة الماضية، استفزتني صورة واحدة، كما لم تفعل غيرها من الصور الأخرى، على الرغم من أنها أقلها دموية، وعلى الرغم من أن الجثث فيها ليست واضحة، وبدت بعيدة في عمق الصورة. أما العنصر الأبرز فيها فهو الابتسامة العريضة التي أبدتها المراسلة التلفزيونية السورية، كنانة علوش، لعدسة هاتفها، وهي تلتقط لنفسها تلك الصورة بطريقة “السيلفي”، متباهيةً، كما يبدو، بقدرتها على التطبيع مع الموت بهذا الشكل المريع، فظهرت تلك المذيعة التي ذهبت إلى ساحات الموت بكامل زينتها، وكأنها وحش حقيقي، تتشفى بالضحايا الذين تحولوا إلى جثث مشوهة بانفجارات البراميل، ربما من دون أن تعرفهم وتتلمظ، وهي تشم رائحة الدماء البريئة السائلة تحت قدميها وتبتسم. نادرة جداً، إن لم تكن مستحيلةً، الحروب التي لا تخلّف وراءها ضحايا من الأبرياء. ولذلك، لا منطق حقيقيا للحرب، أي حرب، مهما كانت دوافعها ومنطلقاتها. هذا حقيقي ومفهوم، ولا يتناقض أبداً مع إيماننا بضرورتها أحياناً، سبيلاً أوحد نحو إقرار الحقوق، والدفاع عنها في جو سلام إنساني حقيقي. لكن هذا، أيضاً، لا يجعلها كحربٍ عادلةٍ حرباً جميلة، ولا يجعل من صورتها صورة مثالية، فما بالك إن كانت أساساً حرباً “نذلة”، ولا أخلاقية يشنها الطاغية وأعوانه، بكل ما يملكون من عدة وعتاد بالضرورة ضد الشعب الأعزل، بالضرورة، بأسبابٍ ولأهدافٍ تخص ذلك الطاغية، وأعوانه وحدهم، وتضمن لهم، كما يظنون، سنوات إضافية مدة بقائهم في كراسي الحكم؟ هذه هي صورة الحرب التي يشنها الطاغية السوري ضد شعبه منذ أعوام، ويسوّقها للآخرين، باعتبارها حرباً ضد ما يسمى الإرهاب والجماعات المسلحة التي وجدت في الأراضي السورية جغرافيا صالحة للقتال والتدرّب على القتال بحجج مختلفة. الغريب أن من يستخدمون حجج الطاغية نفسها في الدفاع عنه، وعن حربه اللاأخلاقية ضد شعبه، ينسون أو يتناسون مسؤوليته وحده عن كل ما حدث لبلاده. فعندما ينفون مسؤولية النظام عن كل المآسي التي حلّت بأبناء الشعب السوري من قتل وتهجير وتدمير وتشريد، وينسبون كل ذلك لما يطلقون عليه الجماعات الإرهابية التي احتلت سورية منذ أكثر من خمس سنوات، لا يدرون أنهم يقدمون سبباً إضافياً لإدانة طاغيتهم، فرئيس غير قادر على حماية بلاده، وأبناء شعبه، من مجرد جماعات مسلحة لا يستحق أن يبقى أكثر ممّا بقي حاكماً لهم، وعليه أن يتنحى ما دام قد فشل في أداء أول مهماته رئيساً، بدلاً من العمل، بالقوة القصوى لمكينته الإعلامية، على تسويق الحرب التي أحرقت الجميع في سورية بأنها نزهة، تنتهي كل فقرة جديدة منها بتوزيع الابتسامات الدموية، والتقاط صور “السليفي” المروعة مع الضحايا، ونشرها على العالم دليلاً على الانتصارات المستمرة والأكيدة، وعلى سهولة تلك الحرب التي انتصر فيها مئات المرات من دون أن تنتهي. في ابتسامة كنانة علوش صورة واضحة المعالم لنظام الطاغية السوري، بل ولكل أنظمة الطغيان في التاريخ، حيث الموت الذي هو نقيض الحياة يعني أنه الوقود الأمثل لاستمرار مثل تلك الأنظمة على قيد الحياة. ولهذا، لا يمكن أن نصدّق أن تلك الابتسامة تعبّر عن فرحٍ ما، كما هو المعنى المتوقع لأي ابتسامة، حتى وإن كان فرحاً مزيّفاً، بقدر ما تعبّر عن انحطاط أخلاقي، يتناسب مع الانحطاط السياسي الذي أفرزه بهيئة تلك المرأة المسكينة حقاً، فلا يمكن لأمرأةٍ تجد نفسها وقد أصبحت هي الصورة المثالية لنظام سياسي حاكم، كنظام الطاغية، وتبادر إلى تصوير نفسها بتلك البشاعة، وهي تبتسم، إلا إن كانت مسكينة تستحق الشفقة، وكفى بصورتها تلك عقاباً فوتوغرافيا لها يلاحقها العمر كله بقسوة الانحطاط.
العربي الجديد