على امتداد خمس سنوات استطاع سلاح الجو السوري أن يفتك بالقرى والمدن ويحولها خراباً، ودأب بـ”بسالة” على ارتكاب مجازر جماعية في كل أنحاء سوريا. ويكفي هذا السلاح فخراً ابتكاره الفتاك: البراميل المتفجرة، العمياء والعشوائية، والمصممة خصيصاً لإلحاق أكبر ضرر ممكن بالتجمعات السكانية والعمرانية.
وطوال مدة الحرب، كان واحدنا يسأل: من هم هؤلاء الطيارون الذين لم يترددوا في قتل شعبهم بالذات؟ كيف لهم هذه الحماسة والمثابرة على إحراق بلدهم وتحويله أنقاضاً؟ من هو هذا الطيار السوري الذي يرمي برميلاً على مدن كحلب وإدلب وداريا ودوما.. كيف كوّن النظام هؤلاء؟ من أين أتى بهم؟ كيف انتقاهم ودربهم؟
ربما الإجابة تكمن أولاً في معرفة من رفضهم النظام أن يصيروا طيارين حربيين، من سرحهم أو أودى بهم إلى مصير آخر.
هنا سيرة طالب في الكلية الجوية، تكشف اللحظة التي بدأ بها حافظ الأسد إعادة تشكيل سوريا، وتوطيد نظامه “ما بعد البعثي” (إذا صح التعبير) والتخلص من منافسيه وخصومه، خصوصاً بعد حرب تشرين 1973. سيرة تكشف الحقبة، التي قرر فيها الأسد الأب “تمكين” العلويين من أجهزة الدولة ومؤسساتها ومقدراتها، خصوصاً في الجيش والمخابرات. التقينا أبو خالد (اسم مستعار)، في إحدى قرى البقاع، حيث يسكن مع أسرته، ليروي لنا تلك السيرة المريرة والمروعة.
الفخر والعز والبطولة
سأل أمه: “لماذا يبكي أبي؟”. قالت: “مات عبد الناصر”.
لم يكن أبو خالد قد تجاوز الثامنة من عمره، حين راح يستفسر عن عبد الناصر وقضية فلسطين والعروبة.. هو ابن حمص، من سكان بابا عمرو حين كان حيّاً غير معبّد الطرقات، لأب شرطي يخدم في سراي المدينة، ومن عائلة تضم ضباطاً في الجيش والشرطة.
يذكر أبو خالد ذهابه اليومي حاملاً “المطبقية” (السفرطاس) إلى والده في السراي، ودهشته من هيبة المكان والوقار الخاص به، واحترام الناس لـ”رجال الدولة” والشرطة: “في ذاك الزمن، كان السوريون يهابون الشرطي، لا من خوف، وإنما من تقدير لمكانة الموظفين الحكوميين، والساهرين على الأمن، والذين يطبقون القانون”. كان يشعر بالزهو إذ يرى أباه يلقى الترحيب والود أينما تجول في حمص: “كنا فقراء… نتوارث ثيابنا من الابن الأكبر إلى الابن الأصغر، لكن كنا نعيش بكرامة وافرة”، يقول أبو خالد.
في أجواء العائلة والأقارب، كما في أجواء المدرسة، كان ينجذب إلى كلام البطولة والشجاعة والحرب مع إسرائيل ومواجهة أعداء سوريا، ومعاني الفخر والعز والشهادة والفداء والمقاومة..
في العام 1973، صعد إلى سطح المنزل ليشاهد الطيران الحربي الإسرائيلي وهو يقصف مصفاة حمص النفطية. راقب الطائرات وهي تحوم حول المدينة في حلقات واسعة لتنقض بصواريخها بسرعة هائلة. وشاهد في التلفزيون الأسود والأبيض أخبار المعارك الجوية وبطولات “نسور الجو”، مسحوراً ومبهوراً بمكانة الطيارين المرموقة في الجيش.
تثقيف سياسي
بعد تلك الحرب بسنتين تقريباً، قررت الدولة السورية فتح باب التطوع في سلاح الجو، بدورات خاصة لحملة الشهادة الإعدادية (المتوسطة)، تختلف عن خريجي الثانوية العامة. تحمس أبو خالد لهذا الإعلان، وشجعته أسرته، فذهب إلى مركز التطوع بحمص، للخضوع للفحص الأولي. صدمته الجموع الكثيفة من الشبان المتقدمين، وشعر بأن الأمر سيكون صعباً وتنافسياً. مع ذلك، انتظر دوره نهاراً كاملاً. تقدّم بأوراقه واستمارته ووقف أمام لجنة فاحصة، كشفت على هيئته وطوله وبنيته الجسمانية من غير تدقيق: “إقرأ الجريدة، فأقرأ.. قف منتصباً، فأقف.. وهكذا”.
بعد أيام، تسلّم والده في السراي الحكومي ورقة استدعاء أبي خالد إلى دمشق، للخضوع لفحص طبي وامتحان نظري. وجد أبو خالد أن كلفة السفر مؤمنة، فالمواصلات زهيدة الثمن، أما بخصوص الطعام والمنامة، فأخته المتزوجة مقيمة في العاصمة وستوفر لأخيها المأوى والغذاء.
وجد أبو خالد نفسه مع مئات آخرين آتين من كل أنحاء سوريا. ونجح في الامتحان ليتلقى بعد أيام طلب الالتحاق بالدورة في الكلية الجوية بحلب: “لم تسعني الفرحة.. سأكون واحداً من نسور الجو، سأكون بطلاً”.
سيكتشف أنه وصديقه نبيل هما فقط اللذان نجحا من كل محافظة حمص: “ضمت دورتنا 42 مرشح ضابط طيران. والمعاملة استثنائية في الجيش لسلاح الطيران. كانت مهاجعنا نظيفة ومرتبة ومبلطة وفيها تدفئة وحمامات عصرية وطعامنا أفضل بما لا يقاس من طعام الجيش الذي نأنف تناوله، وثمة جنود عاديون مناط بهم مهمة تنظيف المهاجع والقاعات والحمامات.. نقضي وقتنا في الدروس والتدريبات والمحاضرات”.
في بداية الدورة، يسأل ضابط التثقيف السياسي أثناء التدريس: “من منكم عضو في الحزب؟”، وسيكون أبو خالد وصديقه نبيل “البعثيين” الوحيدين بين أقرانهم: “كنا لا نزال نصيرَين ولم نصبح بعد عضوين عاملين.. ففاجأنا الضابط بإعلانه أننا مقدّما الدورة”. لكن المفاجأة الأخرى في دروس التثقيف السياسي هي تخصيص محاضرة مطولة عن “الإخوان المسلمين”: “نشأت وتربيت وعشت في جو قومي عربي ووطني سوري وانتسبت منذ المراهقة لحزب البعث ولم أكن أعلم شيئاً عن جماعة الإخوان المسلمين. ظننت في البداية أنها أشبه بجمعية، لكن فحوى المحاضرة كانت غريبة عن مداركي. لم أتجرأ خجلاً وإحراجاً على سؤال الضابط عن ماهية هذه الجماعة الخطرة والمكروهة إلى هذا الحد”.
أول المحنة: ضابط المخابرات
بعد سنة ونيف تقريباً على وجود أبي خالد في الكلية، سيأتي فوج جديد من المتطوعين، فكان عليه هو وزملائه أن يتولوا إرشادهم والإشراف عليهم وتوزيعهم على المهاجع وقيادتهم إلى المهمات التدريبية والتدريسية، وحفظ انضباطهم ومراقبة مسلكيتهم: “كان كل شيء على ما يرام.. عبرت الكثير من التجارب الصعبة والامتحانات النظرية والاستجابة البدنية لمناورات الطيران وضغوط الجاذبية والارتفاع والهبوط.. إلخ، فيما كان يتم تسريح آخرين لأسباب عديدة، على الرغم من أن معظمهم كانوا أفضل مني جسمانياً وأكثر قدرة على التحمل، وأشطر مني في العلوم النظرية. لم أتساءل كثيراً حول الأمر لثقتي في أن من سيبقى هم الأفضل، النخبة، النسور”.
يتذكر أبو خالد: “كنت على وشك نهاية السنة الثانية، حين أتى مرة ضابط أمن (مخابرات) وطلب مني التحدث معه على انفراد. عادة، كنت أشعر أن جميع من في الكلية يهاب ضابط المخابرات. شعور صامت وحسب، لذا لم أنفعل ولم أرتبك. قال لي ذاك الضابط، وإسمه على ما أذكر ابراهيم، أن ثمة شكوى بحقي تقدم بها الطالب المستجد محمود، فحواها أني عرضت عليه ممارسة الجنس. قال حرفياً: “طلبت منه ممارسة الجنس”. لم أصدق ما أسمعه، استنكرت ونفيت بقوة حدوث أي شيء من هذا القبيل. اقترحت عليه فوراً أن أواجه محمود أمامه. لكن ضابط المخابرات رفض، ونبهني من التحدث معه، وأن الأمر انتهى. عدت إلى المهجع، لأرى صديقي نبيل مكفهر الوجه، مهموماً وصامتاً. جلست بجواره، ما بك يا نبيل؟ ولم يرد. صرت ألحّ عليه: إحكي، إحكي.. شو بك؟ إحكي، أنا كمان عندي مشكلة. إذا حكيت أنا بتوعدني أنك تحكي؟ هكذا سردتُ لنبيل فحوى كلام ضابط المخابرات. فبهت نبيل ليقول وهو منذهل أن ضابط المخابرات إياه أبلغه بشكوى شبيهة من طالب آخر. وأيضاً طمأنه بأن الأمر انتهى عند هذا الحد. بالطبع، واجهت محمود الذي أنكر تقديمه أي شكوى. فأقنعت نفسي بأن الموضوع هو مجرد امتحان نفسي أو مقلب من ضابط المخابرات”.
زنزانة مطار منغ
بعد يومين، تسلّم أبو خالد استدعاء إلى فرع المخابرات في مطار “منّغ” العسكري. ذهب في شاحنة التموين غير متيقن من سبب الاستدعاء. وفكّر إن كان الأمر يتعلق بالشكوى المفترضة، فسيتم تبديد التهمة بسهولة، لا بد إنها إجراءات إدارية لإنهاء الموضوع، ربما مجرد سوء فهم بسيط وسيتبدد. دخل إلى غرفة انتظار، فأتى “مساعد” الضابط وطلب منه تسليم قبعته العسكرية وحزامه و”أنشوطة” الكتف (الشرائط المجدولة) ومقتنياته الشخصية، ثم أدخله إلى رواق، فالزنزانة: “سيقابلك الضابط بعد قليل”. تمضي ساعات وهو لا يستوعب ما يجري. يعود إليه “المساعد”: “الضابط خرج وسيأتي غداً”. تمدد أبو خالد في زنزاته إلى أن استيقظ ليلاً وهو متورم في كل أنحاء جسمه، شعر بأن وجهه منتفخ، فصرخ للحرس و”المساعد”، فأخرجوه إلى الضوء. كانت القرادات تلتهمه والقمل يزحف على جسده. أخذوه إلى مستشفى عسكري. وهناك، أمضى ساعات عدة للعلاج. شعر بالراحة آملاً أن يقضي ليلته فيها. لكنه اقتيد مرة أخرى، قبيل الفجر، إلى القاعدة ورُمي في زنزانة مختلفة.
بعد مرور 48 ساعة في زنزانته وهو يأكل طعاماً نتناً، ظهر “المساعد” وجرّه إلى مكتب الضابط. وبدأ الاستجواب: “هل طلبت من مرشح ضابط طيران محمود ممارسة الجنس معه؟ قرّ بالحقيقة..”. شرح أبو خالد المسألة كلها وأنكر وجود هكذا واقعة كلامية. أسكته الضابط وطلب من مساعده إعادته إلى الزنزانة.
وفوراً يبدأ التعذيب ضرباً. انهال عليه الحرس و”المساعد” بالصفعات واللكمات والعصي إلى حد الإغماء.
يتذكر أبو خالد: منذ تلك اللحظة، لم أعد أناديه “حضرة المساعد” بل “سيدي”. قضيت أياماً عديدة، وأنا أتعرض للتعذيب، ثم أخذوني إلى الضابط. ومرة أخرى طلب مني أن أقرّ بالتهمة، فأنكرتها وأبديت شدة استغرابي لهذا التلفيق الذي لا أساس له من الصحة. عندها صرخ الضابط: إجلبوا ذاك الطالب. وأصبت بالذهول، كان ذاك الطالب هو صديقي نبيل. لقد اعتقلوه هو أيضاً. لم أصدق كيف هو أيضاً تبدو عليه علامات التعذيب والمهانة. اقترب الضابط منا، ودار حولنا، وبغتة سدّد على وجه نبيل ربما أقوى صفعة شهدتها في حياتي، إلى حد أني رأيت وجه نبيل منطعجاً بكامله، بل إن صوت الصفعة في أذني كان شديداً ولا يُنسى. أخرجونا، كل واحد إلى زنزانته. وتوقف بعدها التعذيب. بعد أيام، جرّوني إلى مكتب الضابط، الذي أجلسني بلطف: أتشرب زهورات؟ نعم سيدي. رن على جرس: هاتوا اثنين زهورات. أتدخن؟ نعم سيدي. رن على الجرس: هاتوا علبة سجائره. وبدأ الحديث معي بهدوء: ستكتب حقيقة ما جرى وتعترف بالتفصيل، وينتهي الأمر. سنمنحك إجازة لمدة ستة أيام، وتعود بعدها إلى الكلية. ألا تريد أن تستلحق زملاءك الذين سبقوك الآن؟ نبيل كتب واعترف وانتهت مشكلته. أسرِعْ بكتابة الاعتراف، حتى استلحق اليوم إستصدار قرار إجازتك.
يقول أبو خالد: كنت حينها ما بين السادسة عشرة والسابعة عشرة من عمري، ولم أفكر سوى بالعودة إلى مسار حياتي الطبيعية، وبطموحي في أن أصير طياراً حربياً، ضابطاً محترماً وأخدم بلادي. كنت غير مصدق هذا الكابوس، ورحت أفكر، سأكتب ما يريد ويأتي الخلاص، لا بل وفوقها إجازة ستة أيام كاملة، حتى في الأعياد لا نحصل عليها. قلت له أني لا أعرف ما يجب كتابته تماماً، ورجوته أن يملي عليّ الكلمات المناسبة.
“الملازم” سهيل الحسن
ما أن انتهيت من تدوين كلماته على تلك الورقة ووقّعتها، حتى أخذوني إلى الزنزانة مجدداً، وإلى اليوم التالي. في الصباح الباكر، أخرجوني إلى الباحة، وسلموني إلى رجال أمن بثياب مدنية. كبّلوني واقتادوني إلى سيارة “بيجو ستايشن بيضاء” ثم وضعوا عصبة على عينيّ، وحشروني في المقعد الخلفي. ساعات طويلة في رحلة غامضة امتدت طوال النهار، إلى أن شعرت أني في قلب مدينة صاخبة، فخمّنت أني في دمشق، ثم أحسست بالسيارة تنزل تحت الأرض. أخرجوني وأزاحوا العصبة، لأرى بوابة معدنية رمادية ضخمة، ومن باب صغير فيها اقتادوني إلى غرفة كان يتراكم فيها عدد هائل من الأكياس البلاستيكية. طلبوا مني أن أضع كل مقتنياتي وملابسي العسكرية في كيس بلاستيكي. خرجت بملابسي الداخلية فقط. من تلك الغرفة نزولاً على الدرج حتى الرواق في طابق سفلي آخر وصولاً إلى زنزانة شديدة الضيق (حوالى متر وربع المتر) كانت عبارة عن مشوار من تلقي ضربات المتواصلة بالعصي والركلات والصفعات، لينتهي بي المطاف داخل الزنزانة مدمّى متورماً بآلام فظيعة.
عرف أبو خالد أنه معتقل لدى المخابرات الجوية. من زنزانته، سمع بلا توقف أصوات التعذيب، ليلاً نهاراً، وكان هو وجميع النزلاء يتلقون الضرب الجماعي مرتين على الأقل في اليوم الواحد، خصوصاً وقت الخروج إلى الحمام: “بعد يومين اقتادوني إلى مكتب الملازم سهيل الحسن، الذي بادرني: ولاه، عائلتك كلها من الشرفاء، ليه أنت عرص؟ هذا المكتوب بالتقرير صحيح أم لا؟ وحين حاولت الإجابة مستنكراً، رن على جرس، فدخلت زمرة ليقول الحسن “خذوه”. وهذه الكلمة تعني جرجرجتي تحت الضرب إلى غرفة تحقيق. هناك، بلمح البصر، كانت قدماي معصورتين بين حديد سلاح الكلاشينكوف وكشاطه، يفتلون الكشاط إلى حد أن ينغرز الحديد في عظامي. ألم لا يُحتمل وصراخ جارح.. بعدها، لم أعرف كيف بت داخل الدولاب أتلقى ضربات العصي والركلات، إلى أن غبت عن الوعي.
من التحرش الجنسي إلى “الإخوان المسلمين”
مرة ثانية، في مكتب الملازم سهيل الحسن. لكن التحقيق مختلف: أنت كنت تذهب إلى مقهى في حمص، يرتاده فلان وفلان وفلان.. وعلان، وهؤلاء جميعهم من “الإخوان المسلمين”، ما علاقتك بهم؟ أين كنتم تجتمعون؟ من كان مسؤول الخلية؟..إلخ. أصبت بالذهول والحيرة، لأني لم أكن أعرف أولئك الاشخاص ولا صلة لي بهم إطلاقاً: سيدي أنا بعثي، ولا أعرف شيئاً عن الإخوان المسلمين. ضغط الحسن زر الجرس: “خذوه”. وبدأ التعذيب مجدداً وبقسوة أشد. أحدهم سدد ضربة رهيبة على باطن قدمي فانفتح فيها جرحاً غائراً وراح الدم ينفر غزيراً ملطخاً الجدران والسجانين. أوقفوا الضرب ورموني في الزنزانة.
في ما بعد عرفت أن الذي كان شديد القسوة في تعذيبي، كان من جيران أختي ويزور أسرتها ويتناول الطعام في منزلها. وعائلتي التي كانت تبحث عني، سألته إن كنت موجوداً لدى المخابرات الجوية. في البداية أنكر معرفته، ثم أبلغهم بوجودي وطمأنهم كاذباً، أنه وضعني في زنزانة مريحة ويعتني بي ويؤمن حاجياتي. هكذا راح يأخذ من عائلتي الأموال والأطعمة والملابس، وطبعاً لا أدري بها ولا أستلم منها شيئاً.
في زنزانة ملاصقة جاورني شاب كان مرافقاً لبشرى الأسد، غضبوا عليه ورموه في المعتقل، قال لي: أنت ما زلت حيّاً لأنهم لم يثبتوا بعد انتماءك للإخوان، إياك أن تضعف وتقر بهذه التهمة، سيعدمونك فوراً.
مرت أسابيع عدة، ومرة ثالثة في مكتب سهيل الحسن، يقول لي: في الكلية العسكرية أنت صمت بشهر رمضان؟ أجيبه: حاولت يوماً أو يومين مسايرةً لرفاقي، لكن شدة البرنامج التدريبي كانت متعبة جداً ولذا لم أصُم فعليا. يسألني: أنت شاركت في صلاة العشاء بشهر رمضان خلف فلان ومع فلان وعلان؟ أرد: كنا جالسين في الحديقة أمام باب المهجع وتوافق معظمنا على صلاة جماعية، فشاركتُ مسايرة وتهذيباً.
يصمت قليلاً، ويضغط على الجرس، فيدخل الحرس برفقة الطالب محمود. عندما أراه أقول في نفسي “أخيراً جاء الفرج، لا بد أن محمود سيقول الحقيقة ويبرئني نهائياً”. لكن محمود الذي بدا منكسراً وخائفاً يصرح مرتجفاً أني طلبت منه ممارسة الجنس. يخرجونه وأبقى وحدي. يصرخ سهيل الحسن: يا خنزير.. يا حقير، أكتب وقرّ بتهمة طلب ممارسة الجنس مع الطالب محمود. فأستجيب باستسلام ويأس قائلاً أني مستعد لنسخ ورقة الاعتراف نفسها وتوقيعها. فيناولني من الملف تلك الورقة، ويطلب من الحرس أن يعيدوني إلى الزنزانة مع أوراق وقلم. وفيما كنت أعيد نسخ “اعترافي” الأول في مطار منغ، يقترب مني سجان كان يشفق علي ويبدو عليه بعض اللطف ويمنحني سيجارة كان يدخنها. أتجرأ وأسأله إن كان باستطاعته نقلي إلى مهجع جماعي. يأخذون مني الأوراق و”الاعتراف” الجديد. ومرة رابعة، في مكتب الحسن: “أنت تسببت باختفاء المرشح الطيار فلان الفلاني، يقال أنك أطعمته صابونة، وأنه هرب من الكلية بسببك واختفى”. شعرت فوراً أنهم يريدون تلفيق تهمة قتل تلميذ ضابط عرفنا أن المخابرات اعتقلته وبات مجهول المصير. شلني الرعب ولم استطع النطق. فخرجت مرة أخرى إلى التعذيب، حيث انفتح مرة أخرى جرح قدمي المقطّب.
بعدها بأيام، يأتي السجان “اللطيف” نفسه لينقلني إلى مهجع جماعي. كنت شديد البهجة لتخلصي من الزنزانة الانفرادية التي حفرت في إحدى زواياها “مرشح طيار حربي.. أبو خالد”، وسيقرأها في ما بعد أحد أصدقائي القدامى من الكلية الحربية، عندما يصير هو أيضاً نزيلها.
انقشاع الصورة
المفاجأة في المهجع الجماعي كانت وجود صديقي نبيل فيها. هو أيضاً ما زال معتقلاً؟! نتحدث كثيراً ومراراً، ونستعيد كل ما جرى معنا ونفهم بوضوح مصير كل المرشحين المسلمين السنّة، الذين تم تسريحهم لأسباب غامضة، أو اختفوا أو اعتقلوا كما هو حالنا. انقشعت أمام عيوننا كل التفاصيل المتفرقة لتجتمع في رؤية واسعة لممارسات التدريب والحياة في الكلية والتمييز الواضح بين المنتسبين، سنّة وعلويين، وعدم رسوب أي علوي بيننا. أستوعب أكثر غرابة كل هذا العقاب لأكثر من تسعة أشهر لمجرد تهمة، ليست حتى “اعتداء جنسياً” بل كلمات: “أريد ممارسة الجنس معك”. ولماذا كان هذا التلفيق بالذات؟ يريدون نزع رجوليتي، تشويه سمعتي.. ليحرموني حتى من صفة “معتقل سياسي”.
حادثة ابراهيم اليوسف
يتذكر أبو خالد: كنا نعرف من يدخل إلى رواق السجن، علي مملوك أو سهيل الحسن، بحسب قوة خبطات أقدام السجانين والحراس بتحيتهم العسكرية. الخبطات الأقوى كانت لتحية علي مملوك، هكذا أخبرنا باسمه زميلنا، المرافق السابق لبشرى الأسد: “عندما يأتي علي مملوك، فثمة أمر خطير. اعترافات شديدة الأهمية أو عملية إعدام”.
في إحدى الليالي، اندلع الضجيج، المهاجع الجماعية والزنزانات الفردية تستقبل أفواجاً من المعتقلين. حركة غير عادية، وصرخات لا تتوقف. عمليات تعذيب بالجملة. أصوات فظيعة نسائية، أصوات أطفال تمزق القلب، جعير كبار السن وأنينهم المتواصل. جهنم متواصل طوال خمسة أيام، وكنا نلمح الحرامات المرمية في الرواق مشبعة بكتل الدم والقيء والبراز. هي أسوأ أيام المعتقل. لم نعرف إلا بعد فترة سبب هذا الجنون وكل هذه الاعتقالات وحفلات التعذيب الهستيرية. لم نعرف عدد الذين ماتوا في تلك الليالي. تسربت نتف أخبار عن ضابط يدعى ابراهيم اليوسف، ارتكب مجزرة بحق زملائه من العلويين في الكلية الحربية بحلب. تخيلت أنهم سيعدموننا انتقاماً وثأراً.
البوط العسكري
بعد نحو سنتين على محنة أبي خالد، فُتح باب المهجع: “وضب أغراضك كلها وتعال معي”، قال له السجان، مضيفاً: “إفراج”. دخل غرفة الأكياس البلاستيكية، ناولوه كيسه، وقد سُرقت الأموال من محفظته. لأول مرة يحاول انتعال بوطه العسكري: “لم أنتبه ولم أشعر بالألم لشدة حماستي وفرحتي. فقط عندما وصلت ليلاً إلى منزل أختي اجتاحني ألم قدمي اليسرى بجرح التعذيب القديم، ولاحظت أن لي عرجة خفيفة ستبقى طوال حياتي. لم استطع نزع البوط منها. رحت بالمقص أمزقه حتى أحرر قدمي. شعرت أني أمزق البوط العسكري ليس الذي في قدمي، بل ذاك الذي يدوس سوريا كلها. البوط الذي يحكمنا”.
***
طوال سرد أبي خالد لسيرته هذه، كنت أفهم من هم الذين يقودون الطائرات الحربية الآن في السماء السورية بقيادة سهيل الحسن وعلي مملوك وأشباههما، من تلامذة حافظ الأسد وأتباع إبنه بشار الأسد. كنت أفهم من هم الذين يتخرجون بنجاح في كلية “البراميل المتفجرة”.
يوسف بزي – المدن