- ما يجري في حلب ليس مجرّد معركة للسيطرة عليها، بل هي معركة بين المصالح والتوازنات الإقليمية والدولية، وساحة لصراع الإرادات وقياس النفوذ، ومع تصاعد الحرب وارتفاع التكلفة يتجدّد السؤال حول الثورة السورية وحقيقتها وأسبابها؛ هل حقا اندلعت شرارة الثورة السورية في 2011، في سياق الربيع العربي، أم هي تراكمات سابقة وما حدث في 2011 ليس سوى النقطة التي تلاقت في بوتقتها الاتجاهات الداخلية والإقليمية والدولية؟ هذا التساؤل كان محلّ بحث لكل من الباحثين البريطاني جون ماك هيوغو والعراقي عصام الخفاجي، وقد اتفقا على أن الحرب الأهلية الدائرة في سوريا اليوم، ولئن أخذت لونا طائفيا وطابعا دوليا، فإن أصولها تكمن في الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية المحلية.
يشبّه الباحث البريطاني جون ماك هيوغو، الدولة البوليسية التي أقامتها عائلة الأسد بـ”حجر متهاو في قوس منحن تشدّه في مكانه أحجار محاذية”، وجاء زلزال الانتفاضة في سنة 2011 فـ”جعل الحجر السوري يتدلى بشكل هش، ومازلنا لا نعرف هل سيسقط بالفعل، ومتى سيحصل ذلك؟”.
هذا التشبيه يلخص بدقة ما أنجزه، ماك هيوغو في كتاب له صدر أواخر 2015، بعنوان “سوريا: تاريخ المئة سنة الأخيرة”، وتؤكّده دراسة لعصام الخفاجي، المختص بالعلوم السياسية والاقتصادية، صدرت منذ أيام عن مبادرة الإصلاح العربي، وفيها يشير إلى أن الثورة السورية ليست تماما ثورة لأغلبية سنية تسعى إلى الإطاحة بنظام طائفي علوي، بل هي في جذورها ثورة اجتماعية واقتصادية لها علاقة بالتركيبات الاجتماعية والسكانية داخل المجتمع السوري.
دراسة الخفاجي، وفق عنوانها، وهو “اضمحلال دور المدينة في الثورة السورية”، ركّزت على الخلفيات الاجتماعية والتركيبة السكانية للمجتمع السوري، وعلاقتها بالبعد السياسي، وجاء إطارها الزماني محدّدا منذ استقواء حكم عائلة الأسد، أما ماك هيوغو، فاتخذ بعدا زمنيا أطول، مستحضرا تاريخ سوريا خلال المئة سنة الأخيرة.
يشرح هيوغو كيف ظهرت الدولة السورية في البداية تحت الوصاية الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم مرت بعقدين ونصف العقد من الزمن من حالة عدم الاستقرار بعد الاستقلال في سنة 1946، ثم أخيرا أصبحت تحت سيطرة حافظ الأسد (الذي أمسك بالسلطة رسميا في سنة 1970) وابنه بشار الذي خلفه عند وفاته في سنة 2000. وعلى امتداد هذا التاريخ لم تنعم سوريا لا بالأمن الداخلي ولا الخارجي.
|
جغرافية البؤس
على الجبهة الداخلية يبين ماك هيوغو كيف أن بروز نظام الأسد (هياكله وثقافته الاستراتيجية وتركيبته الطائفية وأهم سياساته) يسلط الكثير من الأضواء على الديناميات الحالية. وكانت هذه النقطة محور تركيز دراسة عصام الخفاجي الذي رغم تأكيده على أن الثورة السورية قامت بها الأكثرية السكانية السنية في سوريا ضد هيمنة الأقلية العلوية داخل السلطة لنحو خمسة عقود، إلا أنه يرى أن هناك جوانب أخرى قد تكون أكثر أهمية لتفسير أسباب الثورة، مستندا إلى الفوارق الاجتماعية بين المدن والعشوائيات والمناطق القبليّة.
ويؤكد الخفاجي على أن الثورة السورية ومنذ انطلاقتها كانت مختلفة تماما عن الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن، ذلك أن المحافظات الصغرى، لا العاصمة أو حلب، هي التي قادت الثورة، على عكس بقية الثورات العربية التي كان للعواصم والمدن الكبرى الدور القيادي في تحديد مصير أنظمتها الحاكمة، كما يبحث بشكل معمّق في الطريقة التي تفاعل وفقها سكان المدن والأرياف مع الثورة.
ينطلق الخفاجي بدراسته من آخر تقرير أجراه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن حالة الفقر وعدم المساواة في سوريا في الفترة ما بين 1997 ـ 2007، أي قبل سنوات قليلة من انطلاق الثورة، والذي يشير إلى أن الإنفاق الاستهلاكي في المحافظات الساحلية العلوية كان أعلى بنحو 150 بالمئة من بقية مناطق سوريا، فيما انخفضت حصّة شمال وشرق البلاد إلى نحو منتصف المتوسط الوطني.
لكنه يرى أن الأسباب الاجتماعية لم تكن مبررات كافية لتحريض السوريين على الثورة. ويلفت إلى أن أهم أسباب الثورة السورية هي سياسة النظام التي استنزفت موارد المياه الشحيحة في سوريا متجاهلة التحذيرات التي أطلقتها هيئات عديدة منذ النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين. وتخلّت عن الفقراء الجدد النازحين إلى ضواحي المدن الكبرى تاركة إياهم يواجهون مصائرهم، فضلا عن مراقبة الجموع الفقيرة لتكاثر الثروات بيد ذوي الامتيازات وأصحاب السلطة، ومظاهر الثراء في المناطق العلوية تحديدا، وكل هذا كان -حسب رأيه- من شأنه تحويل المظالم الشعبية إلى مظالم طائفية.
يرى الخفاجي أن مصطلح “الثورة” بمعناه الدقيق قد ينطبق على المنطقة الغربية المكتظة سكانيا والممتدة من إدلب في الشمال إلى درعا في الجنوب، في حين وجدت المناطق الشرقية والشمالية (دير الزور، والحسكة، والرقة) نفسها في خضم نوع مختلف كليا من الاضطرابات، فحتى الجماعات المسلحة المقاتلة ضد النظام في هذه المناطق بدت منفصلة.
|
ومع تنحية الأكراد الذين اتّضح منذ البداية أن معركتهم ليست موجهة ضد النظام، وإنما بهدف إقامة حكم ذاتي بصرف النظر عن أيّ تسوية سياسية ناتجة، فإن القبائل العربية لم تظهر اهتمامها بإيصال القتال إلى دمشق، وانخراط المناطق الشرقية والشمالية الشرقية في الثورة أتى بعد سيطرة جبهة النصرة ولاحقا داعش على المنطقة.
وفي تبريره لانطلاق الثورة من درعا على الرغم من أنها ليست الأفقر في سوريا (كالرقة)، وعدم وجود هيكلية قبلية عالية لتفسير دور درعا الريادي في الثورة (كدير الزور)، وأيضا رغم أنها كانت معقل الحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه وتزعّمه أكرم الحوراني والذي اندمج لاحقا بحزب البعث في عام 1951، ليشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي، يرى أن سكان هذه المدينة كانوا مسيسين إلى درجة عالية، فربطوا تدهور أوضاعهم الاقتصادية مع تراجع مرتبتهم السياسية داخل النظام.
في المقابل يشير إلى أن العشائر حول المدن كدير الزور والحسكة والرقة لم تستجب للثورة ولم تنضمّ إليها كما فعل سكان المدن، على الرغم من أن مناطقهم من أكثر المناطق فقرا في سوريا. ويبرر سلبية هذه العشائر بأنها نتيجة عقود من سياسة الأسد التي استغلت التناحر بينها وفاقمته، فضلا عن تحالفها مع من يحميها ويؤمّن لها مكاسب أوفر حتى لو كان تنظيمات متشددة، وهذا ما يُفسر كون المناطق العشائرية هي أول موطئ قدم للجهاديين في سوريا.
عسكرة الثورة
رغم اعترافه باستحالة تحليل الخلفيات الاجتماعية للمتظاهرين الذين دعموا الإطاحة بنظام الأسد، إلا أن الخفاجي يعتقد أن قسما كبيرا من الطبقة الوسطى في المدن والبلدات الريفية الكبرى قد لعب دورا فعّالا في إشعال الانتفاضة. ويلفت إلى أن البلدات الريفية في المناطق القبلية كانت الأكثر حماسا للانضمام إلى الاحتجاجات، لكنها لم تفعل بسبب القطيعة بين الريف والحواضر في سوريا.
هنا يرسم ماك هيوغو مقارنات مهمة، بين الثورة الحالية ضد النظام والثورة ضدّ السلطة الاستعمارية الفرنسية، في عشرينات القرن العشرين، التي كان وراءها خليط من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبشكل مماثل زادت ردّة فعل الفرنسيين المفرطة في العنف في صبّ الزيت على النار، ومثلما فعل الأسد اليوم، استخدموا القصف الجوي واستأجروا مليشيات أعضاؤها منتدبة من الأقليات.
|
بدوره، يتوقف عصام الخفاجي عند مسألة العسكرة طويلا، ويقول “يجب التأكيد على أنه لم يكن اللجوء إلى الوسائل العسكرية خيارا في سوريا بل ضرورة، فدمشق ليست القاهرة ولا تونس، وليس فيها جيش محترف غير مسيّس ليقف إلى جانب الشعب الذي استبسل كي يحافظ على سلمية ثورته، كما ساقت مجريات الأحداث إلى عسكرة الثورة”.
يلفت الخفاجي إلى وجود نمطين فكريين متعارضين بين أصحاب عسكرة الثورة في سوريا. وعكس الخلاف بين الجيش السوري الحر والميليشيات الإسلامية هذه الطرق المتباينة في رؤية الثورة وتحديد العدو والأهداف.
كما يشرح ماك هيوغو كيف أن المواجهة الحالية بين نظام الأسد والتنظيمات الإسلامية (من المعتدلين إلى تنظيم الدولة الإسلامية المتطرف) يجب أن ينظر إليها على أنها ليست إلا آخر مرحلة من صراع تاريخي امتدّ لعقود، من أبرز مشاهده معركة حماه سنة 1982 عندما دكت قوات حافظ الأسد مركز المدينة التاريخية حيث احتمى الإخوان المسلمون السوريون. لم ينس حافظ الأسد أبدا أن استخدام القوة المفرطة دون تمييز أخمد الثورة، وهو درس حاول ابنه بشار أن يكرره منذ 2011، لكن الثورة مستمرّة إلى الآن.
واستنادا إلى هذا التاريخ، يحاول عصام الخفاجي نسج فكرة متخيّلة عن التركيبة الاجتماعية بعد أي تسوية سياسية في سوريا. ويؤكد بداية على صعوبة الوصول إلى تسوية من دون إشراك المجموعات المسلحة الإسلامية (المعتدلة) الرئيسية على الأقل، ومنحها حصّة في هيئات صنع القرار وإدارة البلاد، وهذا ليس فقط تكريسا لعلاقات القوة العسكرية/ السياسية السائدة بين نظام الأسد ومعارضيه، بل هو تكريس لعلاقات القوة الجديدة بين المدن والضواحي والمهمشين، أو بعبارة أخرى، إن توازن القوى المترتب عن ذلك يعكس التغيرات الاجتماعية العميقة التي كانت قد بدأت قبل ثورة 2011 والتي وجدت متنفّسها السياسي خلال السنوات الماضية.
الانتفاضة المدنية في سوريا ضد الاستبداد والفساد كشفت عن ثورة المهمّشين ليس فقط ضدّ النظام السياسي القائم ولكن أيضا ضدّ النظام الاجتماعي القائم. وبغض النظر عن التوافق أو الاختلاف مع الفرضيات والنظريات التي يُقدّمها الباحث البريطاني جون ماك هيوغو والباحث العراقي عصام الخفاجي، إلا أن الفكرة تحتاج إلى الكثير من الدراسة والتعمق، فقد يكون فهم جذورها قاعدة وأساسا لإيجاد بعض الحلول التي قد تُحقق لأصحاب الثورة السورية غاياتهم في دولة ديمقراطية تعددية تداولية.
صحيفة العرب