“لازم نساوي شي .. ما لازم يضل هيك .. رح يموت من الجوع ” .. هذه الكلمات حفرتها في ذاكرتي شفاه الصديق الغالي مخبري الأسنان “حسن جولاق”.
قد كنت أحد شخصيات تلك القصة التي لا أحب تذكرها بمقدار ما تلاصق ذاكرتي في نومي واستيقاظي .
فأحيانا استيقظ على صدى تلك الكلمات التي لا يزال صداها يتردد في داخلي صباح مساء، بدأت تلك القصة بعد ما تم اعتقالي على حاجز تفتيش لجيش النظام السوري تحت جسر قرية بداما في الرابع عشر من شهر شباط عام 2013.
ففي حين يحتفل أكثر من 15% من سكان هذا الكوكب الشاسع في ذلك اليوم الذي يصادف “الفالنتاين” أو “عيد الحب” فهو ذكرى سيئة ومظلمة في حياتي لن أنساها ما حييت، تم تقييدي والاحتفاظ بي طيلة ذلك اليوم على نقطة التفتيش دون ذكر أيّ سبب، لا بل حاول بعض العساكر ضربي والتنكيل بي راجين من “إلههم” أن يرفع ذلك التّصرّف من شأنهم في عيون أسيادهم وقاداتهم .
مرت الساعات كسنوات عجاف ولم يلح في الأفق أي بشير يبشرني بعام فيه خير ، فكنت آمل أن أكون في حلم أو أن يكون أحد أولئك الشياطين على خطأ عند ذكر اسمي للاعتقال؛ ولكن للأسف لم أكن أحلم ولم يتحوّل أحد الشياطين ملاكاً بمعجزة سماوية في زمن ليس زمن المعجزات.
تم نقلي إلى زنزانة في مشفى جسر الشغور مع “عبد العزيز” طالب كلية التمرض وآخرين لم تسعفني الذاكرة في ذكر اسمائهما، فعبد العزيز في عمري وشعرت ببعض الآمان برفقته فلطالما ضحكت شفتاه رغم كل الآلام التي تختلج صدر كلّ منّا على حدة .
في السابع عشر من شهر شباط تم نقلنا بسيارة أحد المساجين المدنيين من نوع “كيا 4000” بعد وضع جادر ازرق اللون عليها لتغطيتنا عن عيون الناس والثائرين على حدٍ سواء،
وصلنا مدينة إدلب بعد رحلة أحسستها أطول رحلة في التاريخ فقد كانت أطول من رحلة “جلجامش” و أطول من رحلة “عشتار إلى العالم السفلي” وأطول من رحلات “كريستوف كولومبوس”.
بعد الضرب واللبط والترفيس والإهانات بكافّة أنواعها تمّ التقاط صور لكلّ منّا مع لوحة مخطوط عليها رقم بقلم الفلوماستر أسود اللون كلون حياتنا في تلك اللحظات .
دفعنا الوحوش داخل زنزانات فردية ولكنها كانت أكثر من جماعية، فكنّا ستة أشخاص في زنزانة عرضها متر و طولها متر ونصف فقط، هناك قابلت مخبري الاسنان “حسن جولاق” من قرية “كفروما”.
كان لابد لنا من تمضية الوقت وتبادل الأحاديث التي لطالما تقابلت فيها ذكرياتنا مع أشخاص نعرفهم سوية بمحض الصدفة لاغير ، في اليوم التالي جاء الوحوش بضحايا جدد بعد أن اقتحموا بعض قرى ريفي إدلب وحماه جالبين معهم دلائل انتصارهم على “المخربين” في نظرهم ودلائل عهرهم وخذلانهم في نظر كل واحد منّا داخل تلك القضبان.
كان أحد الضحايا “العم أبا أحمد” رجل في العقد الرابع أو الخامس من عمره لا يزال طنين أنينه من الألم يهز مضجعي ولا يفارق رأسي حتى الآن، فبعد اعتقاله مع أولاده من قريته “كفرنبودة” على ما أعتقد، تم الاحتفاظ به لعدة أيام في حاجز “الكازية” كما يطلق عليه سكان تلك المنطقة، قد قام وحوش البشر بشوي قدمي العم أبا أحمد بشلمون الغاز و قاموا بكسر فكّه السفلي بعد ضربه بأخمص البارودة التي لطالما ربتنا أمّهاتنا على حلم حملها لتحرير القدس من دنس اليهود .
كان مخبري الأسنان “حسن ينظف حروق وجروح العم أبا أحمد كلّ يوم مرتين ، وكنت أساعده في ذلك وقلبي ينفطر مع كل قطعة ننزعها من جلده المحترق وكل صرخة ترافق انتزاعها وتطهيرها بالماء الذي ليس بحيلتنا غيره، لكنّ أبا أحمد لا يستطيع الأكل ، ففكّه السفلي مكسور بشكل كامل ، فكان “حسن” يقوم بتثبيته وتركيزه في مكانه عله يثبت بعد حين وكنت أقوم بترطيب قطع الخبز اليابس بالماء علّه يستطيع بلعها دون مضغ فتقيه قهر الجوع وألم وقوع الفكّ من جديد ولكن لا جدوى من ذلك .
كل يوم نفس الألم ونفس النتيجة، وبعد عدّة محاولات وعدة أيام لم نستطع كبح غيظنا وغضبنا ولم نستطع لجم القهر في داخلنا فقام “حسن” و راح يطرق باب السجانين و يصرخ “رح يموت الزلمي .. حرام عليكن” ، فتح أحد السجّانين باب نافذة صغيرة في باب السجان يطّل من خلالها على قطعان المساجين مسلوبي الحرية والإرادة وكل شيء إنساني وأجاب بصوت أجشّ وخافت “شو بدك ولاك” ، أجابه “حسن” بصوت تخللته رجفة الرعب والخوف “هاد الزلمي فكه مكسور وما عم نقدر نطعميه شي ، جيبوله لبن أو عصير أو فيتامينات تقويه” .
فأجاب السجّان بسخرية أحسست أن لا إنسانية بعد الآن عند سماع إجابته “طعميه خرا ” ، و أغلق نافذته التي كانت جحيماً يطلّ من خلالها على جحيم أعظم .
تلك واحدة من عشرات القصص التي شهدتها عيناي خلف تلك القضبان الحقيرة .
بقلم : محمد عبد الكريم المعري