بعد أيّامٍ قليلةٍ من اعتقاله من قبل قوّات النظام, تركت جثة الناشط السوري الشاب غياث مطر المشوّهة على عتبة عائلته في داريا جنوب غرب دمشق, فربّما كان من المناسب في الذكرى العاشرة للثورة، وفق ما كتبت صحيفة الجمهوريات وترجم المركز الصحفي السوري عنها بتصرّف، اليوم الجمعة 26 آذار/مارس، العودة إلى جدية وجمال الثوري الذي وزع الورود الحمراء على حواجز جيش النظام وكتب في وصيته:
517 ألف سوري حرموا من أبسط الحقوق حتى بداية 2011 ، بعضهم لا يستطيع دخول المشفى أو حتى النوم بفندق!!
“إلى شباب الثورة, رأيت الحرية عند الباب, رأيتها قريبة جداً منك ومني, ففي كلّ مرة نخرج فيها, عندما هزّت ترانيمنا الأرض وأثارت الرعب في قلوب الجبناء, رأيت الحرية تقترب والنصر يتحقق..”
أراها الآن من عالمي يقترب منك فاصبر فالنصر ما هو إلاّ صبر ساعة.
لقد تحولت ساعة الصبر تلك التي تحدث عنها مطر إلى عشر سنوات طويلة شكلت نقطة تحول في الوعي السياسي لعامة السوريين, فكانت الثورة انتفاضة شجاعةٍ من قبل جميع شرائح المجتمع السوري، من مسلمين وعرب وأكراد ومسيحيين وعلويين، متجاوزةً الانتماء الطبقي والجنسي والعرقي والديني.
وثّقت المنظمات العالمية رد فعل النظام الوحشي ضدّ شعبه الثائر، من ذبح جماعي وتشويه واختفاء قسري للمعارضين, فترك رأس النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون البلاد ممزقة، وبُنىً تحتية متداعية وفساد متزايد وتضخم وأزمة جوع غير مسبوقة، دفعت بسوريا إلى حافة الانهيار ولا تزال انتهاكات النظام الوحشية لحقوق الإنسان مستمرة.
كل ذكرى تدعو إلى أسئلة وجودية حول الثورة السورية, فقد افترض المراقبون أسباب فشل الثورة في ضوء الأبعاد الجيوسياسية، وغياب التحول الديمقراطي، وقد يبدو للبعض أنّ الوضع الراهن والمآسي التي حلّت بالشعب السوري تؤكد انهيار الثورة، فبدون شكّ كانت التكلفة البشرية هائلة وفي بعض الأحيان لا يمكن فهمها، وتظهر للحظات أنّ الطريق مسدود, ومع ذلك فإن التصريحات حول زوال الثورة معيبة للغاية لأنّ عتبة النجاح الثوري في هذه الحسابات قصيرة النظر.
لقد حان الوقت لإعادة تقييم التصريحات المبكرة، وإعادة تصور الثورة كسعيٍ جذريٍّ للتحرر من أمراض الذات, فكما يقول الناشط “أسعد العشي” لم يكن أحد يتحدث عن إسقاط النظام ويقول الناشط أحمد شربجي لم تكن الإطاحة بالنظام سوى نتيجة عمليةٍ لنزع الاستعمار المتأصل في الذات السورية تحت الحكم الاستبدادي، حسب وصف الكاتبة.
على الرغم من القمع المستمر لا تزال الاحتجاجات ضدّ النظام مشتعلةً في جميع أنحاء البلاد، سواء في إدلب أو السويداء أو درعا, ولكن كانت في جوهرها بمثابة استعادة دراماتيكية للذات السورية، فيوجد قرابة 12 مليوناً في الشتات وفي الأجزاء المحررة من سوريا يمارس العديد منهم دورهم الثوري، ويبنون المجتمع المدني الذي حرموا منه طويلاً خارج حدود بلادهم.
أصبحت الروايات التي تنكر قسوة النظام وتحاول إضفاء الشرعية على رأس النظام “الأسد”، غير قابلة للتصديق بشكل متزايد في مواجهة الشهادات المخترقة للسوريين، الذين أصبحوا الآن متشابكين في النسيج العالمي للشتات, ففي انتصار تاريخي في مدينة “كوبلنز” الألمانية، أدانت المحكمة ضابط مخابرات النظام السابق “إياد غريب” بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، بناءً على مئات الساعات من الشهادات من السوريين أنفسهم.
إنّ التعبئة نحو الغايات الثورية هي إيجاد مساحاتٍ رقميةٍ جديدة تزدهر فيها, فتطبيق “clubhouse” على سبيل المثال, ينمو بشكلٍ كبيرٍ مع السوريين في جميع أنحاء العالم من نشطاء ومثقفين وصحفيين ومواطنين عاديين من كافة الأطياف، يناقشون أوجه القصور للثورة وكيف يمكن أن تصبح أكثر شمولاً، وحول مكانة الفنون والثقافة النسوية في الثورة وتصورات لما يمكن أن يحمله المستقبل في سوريا ما بعد الاستعمار.
كل هذا يؤكد حيوية الثورة السورية والوعي السياسي الجماعي للسوريين, وأن الثورة لم “تندلع من العدم” بل كانت تتقيأ لأجيال قبل أن يكتب خمسة تلاميذ في درعا عبارة “أجاك الدور يا دكتور” على جدران مدرستهم. فالثورة مستمرة, تتخذ أعمال المقاومة الجسدية الواقعية تجسيداتٍ مختلفةٍ في الشتات المجرد إقليمياً اليوم, وإن الاعتراف بالطبيعة المتطورة للنضال الثوري مهم عند مواجهة تأويلات اختزالية ومبسطة للثورة، باعتبارها فصلًا نهائيًا من التاريخ.
ترجمة محمد المعري
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع