في غزة، حيث الموت يتربص في كل زاوية، وحيث الشمس لا تشرق إلا على أنقاض البيوت المحترقة، وحيث الفرح يُطارَد كأنه جريمة، قرر عبد الله أبو نحل ومريم ديب أن يحلما رغم كل شيء، أن يتحدَّيا القصف والجوع والخوف، أن يثبتا للعالم أن الفلسطيني لا يموت إلا واقفًا، وأن الحب يمكن أن يزهر حتى في أكثر الأماكن ظلمة.
لم يكن لهما قاعة فاخرة ولا موائد عامرة ولا موسيقى تعلو في الأفق، كانت خيمة النزوح سقفهما، وأهل المخيم شهود الفرح، والزغاريد ترتفع رغم أن القلوب كانت تغصّ بالحزن، كأنها محاولة أخيرة للتمسك بالحياة قبل أن يخطفها الموت.
في ليلة زفافهما، لم يكن هناك فستان مرصع بالكريستال، كان هناك ثوب أبيض بسيط نسجته مريم بروحها لا بخيوط الحرير، لم يكن هناك بدلة سوداء، كان هناك شاب يلف عنقه بشال فلسطيني كأنما يعلن أن هويته أكبر من كل المظاهر، لم تكن هناك كعكة زفاف تتوسط الطاولة، كانت هناك قلوب اجتمعت لتقول للعالم إننا مازلنا هنا، نغني، نرقص، نحب، نحلم، نحفر في الأرض خندقًا ونحيا، نحصد حيث أقمنا قتيلًا ونزرع حيث أقمنا نباتًا سريع النمو كما قال محمود درويش، نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا.
لكن الاحتلال لا يريد لنا أن نحب الحياة، لا يريد أن يرى الأمل يتسلل من بين الأنقاض، لا يريد أن يسمع ضحكات العشاق تتحدى أزيز الطائرات، يريد أن يقتل كل شيء، أن يسحق كل شيء، أن يحوّل الفرحة إلى مأتم والحلم إلى رماد، وكأن الحياة في غزة تهمة لا تغتفر.
بعد 48 ساعة فقط من زفافهما، وبينما كان العروسان يتحدثان عن الغد، عن منزل صغير سيبنيانه بعد أن تهدأ الحرب، عن أطفال سيركضون حولهما وهم يصرخون بأسماء الشهداء، جاء الموت بلا موعد، أطلق صواريخه فوق خيمة لم يكن فيها سوى الحب، لم يكن فيها سوى قلبين لم يريدا شيئًا سوى أن يعيشا، انفجرت الأرض، انطفأت الأنوار، واحترقت الأماني، وصعد العروسان إلى السماء معًا، كما أرادا أن يكملا حياتهما معًا، لكن ليس في هذا العالم الذي ضاق بهما، بل في عالم آخر حيث لا قصف ولا قتل ولا صهاينة، حيث الأمان الذي لم يعرفاه يومًا.
استيقظ المخيم على صمت ثقيل، على رماد يتطاير مكان الخيمة التي كانت ليلة أمس تمتلئ بالزغاريد، على ورود الزفاف وقد تحولت إلى بقع دم، على مقعد خشبي كان يجلس عليه عبد الله بالأمس وهو يضحك، لكنه الآن فارغ مثل كل شيء آخر. خرج الناس من خيامهم كأنهم لا يصدقون، عيونهم زائغة تبحث عن أثر، عن بقايا، عن أي شيء يخبرهم أن هذا لم يكن حقيقيًّا، لكن الموت في غزة ليس كابوسًا، الموت في غزة هو الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الشك.
لكننا لا نموت، نحن نعود كل يوم من تحت الركام، نولد من تحت الأنقاض كما تنبت الحنطة من قلب الأرض المحروقة، نمضي كما تمضي أنهار الدم، نحمل وجعنا ونمضي، لا نبكي كثيرًا لأن دموعنا جفت، لا نتوقف لأننا لا نعرف الاستسلام، نحن الذين قالوا عنا إننا كأشجار الزيتون والليمون، مهما اقتلعونا، عدنا من جديد، مهما حرقونا، أثمرنا أكثر، مهما قتلونا، أنجبنا ألفًا يحملون أسماء الشهداء، ومهما قصفونا، سنرقص في زفاف آخر، وسنحب الحياة من جديد، ليس لأننا نسينا، بل لأننا نريد أن نحيا رغمًا عنهم، نريد أن نحيا لأنهم يريدوننا أن نموت.