قد يطرق أبوابنا زائرٌ ثقيلٌ لا نستطيع صده، لكننا نتكيف مع قدومه، فالحياة مليئة بالمنعطفات الجميلة أحياناً والقاسية أحياناً أخرى.
فاطمة فتاة دمشقية، بلغت من العمر (24 عاماً)، درست كلية التربية في جامعة دمشق وتخرجت منها، وتزوجت.
كانت تنتظر موعد زيارة أهلها، لتروي لأمها ما يحدث معها من مواقف فرح تعيشها، ولحظات بؤس تمر بها أحياناً مع زوجها وأهله، ما كانت والدتها إلا الطبيب المداوي، تعينها بكلماتها الحنونة الممزوجة بالحكمة، لتقويها و ترشدها لمواجهة الحياة بكل شجاعة و حلم.
كانت تدخل على أمها وكأن كل هموم الدنيا قد أثقلتها، و تخرج من عندها و كأنها ولدت هذه اللحظة .
ذات يوم دخلت فاطمة على أمها زائرةً لتلحظ وجه أمها شاحباً، “ماما ليش وجهك أصفر ..تعبانة؟ عم يوجعك شي ؟
لا لا بنتي ما فيني شي لا تشغلي بالك شوي تانية وبتحسن؟
طيب ماما قومي لناخدك عالمشفى منشوف الدكتور و منتطمن أكتر ..
لا بنتي لا تكبري الموضوع مافي داعي للمشفى”
أصرت فاطمة إلا أن تأخذ والدتها للمشفى، و هذا ما حصل..
فحصها الطبيب، وسألها إذا كانت تعاني من أي مرض، فردت بالنفي، ولكن نتائج الفحص أظهرت أنها تعاني من ارتفاع ضغط الدم .
كتب الطبيب الأدوية اللازمة للعلاج وبعض النصائح والإرشادات.
وأثناء عودتهم إلى المنزل أخبرتها أمها عن أمرٍ أقلقها “بنتي من فترة أسبوعين حسيت في حبة صغيرة كتير بالثدي الأيمن و ما عم تروح، بس ما بتوجعني ولا مضايقتني”
“الله يسامحك يا أمي ليش ما خبرتي الدكتور ، بكرا بدنا نرجع عالمشفى و نشوف دكتور ”
وفي اليوم التي أجرت والدة فاطمة الفحوص اللازمة، ليخبرهم الطبيب بضرورة أخذ خزعة من هذه الكتلة وتحليلها لتأتي النتيجة بضرورة إجراء عملية لاستئصال الثدي، خوفاً من انتشار المرض الخبيث في كامل الجسد.
جاءت تلك الصدمة لفاطمة و كأنها زلزال هزّ كيانها، ولكن والدتها كانت قوية جداً “اشبك بنتي كلشي بيجي من عند الله يا محلاه، الحمدلله على كل حال ”
وبدأت مسيرة العلاج، وبدأت تظهر ملامح المرض جلياً عليها، عملية استئصال الثدي و جرعات الكيماوي قد أنهكت جسدها .
كانت فاطمة إلى جانب أمها في كل لحظة تحاول التخفيف عنها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، لكن المرض كان شرسا، فاق قدرة والدة فاطمة على تحمله.
بعد فترة قصيرة غيّب القدر والدة فاطمة، وهي في مقتبل عمرها، فلم تكمل عامها ال 45.
شعرت فاطمة وكأن لحظات الفرح قد فارقتها للأبد، لا يوجد أحد مثل أمها، ولا أحد يأخذ مكانها، مسكت يد أمها بكل قوة “ماما لا تروحي وتتركيني مافي حدا بالدنيا بعوضني عنك “، لتفقد وعيها من شدة حزنها وبكائها وتستيقظ بعدها لترى نفسها مددة على السرير.
ركضت إلى غرفت أمها وفتحت خزانة ملابسها، أخرجت ملابسها لتشم رائحتها ” آآآآآآآآه ما أطيب ريحتك ” بدأت دموعها تنهمر كمطر في يوم شتوي عاصف، ضمت ثوب أمها الأبيض بين أحضانها وفي مخيلتها رائحتها التى اشتاقت لها، ثم انهارت فى البكاء .
كل ما تستطيع فاطمة فعله هو الدعاء لها بالرحمة والمغفرة فالبكاء لن يعيد الأحبة من رحلة أبدية للعالم الآخر فلو كان الحزن والبكاء يعيد أمها لبكيت طول العمر عليها .
رحلت والدة فاطمة وتركت لوعة لا توصف وحرقة في القلب ستبقى ترافقها ما دامت على قيد الحياة.
الموت حق، لا يستطيع أحد من البشر أن يؤجل ثانية واحدة من الأجل المحتوم.
الموت هو ذاك الزائر الذي لا أحد بإمكانه أن يمنعه من الحضور.
عبير خطيب
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع