إن التصوُّر الذي تحمله روسيا بشأن الربيع العربي، هو أنَّ تلك الانتفاضات كانت جزءاً من لعبة جيوسياسية؛ وهو ما يُفسر اهتمام روسيا المحدود بالأوضاع في تونس ومصر، مقارنة بتورُّطها الكثيف في سوريا. فمن غير المرجح أن تخضع روسيا إلى الضغوط التي تطالبها بمغادرة سوريا؛ إذ إنَّ سوريا هي المكان المناسب لتحقيق التوازن بين روسيا والقوى الغربية في المنطقة، وتأمين منطقة نفوذ لسياستها الخارجية. وبالتالي، يُعَد فهم نهج روسيا في معالجة الانتفاضات العربية، عاملاً رئيساً في تحليل وجودها في سوريا وسياستها الخارجية الإقليمية.
في بداية الربيع العربي في أوائل عام 2011، تنبأ قليلون بأنَّ يكون لروسيا دوراً رئيساً في المنطقة. وبعد مرور خمس سنوات، أصبحت روسيا الآن أحد اللاعبين المحوريين. لقد غيَّر دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لا يتزعزع لبشار الأسد مسار الحرب الأهلية في سوريا؛ ووجَّه ضربة قوية لفكرة أنَّ الأنظمة الاستبدادية التقليدية في الشرق الأوسط قد عفا عليها الزمن.
ولكن هذا التدخُّل له حدود؛ فروسيا لا يُمكنها أن تكون قوة مُهيمنة، أو أن تكون نموذجاً يُحتذى للمنطقة، ناهيك عن أن تكون تلك الأمور على أجندتها. ولكن روسيا قد برهنت قدرتها على بسط نفوذها، وتشكيل الأحداث، وتعزيز مصالحها.
السبب الأوَّل: يعكس معتقدات راسخة.. فبوتين والنخبة السياسية، ووسائل الإعلام الموالية للكرملين، والخبراء الروس يقولون إنَّ إسقاط الحكومات الشرعية عن طريق التظاهرات الشعبية لا يُمكن أن يؤدي إلا إلى الفوضى. ووفقاً لوجهة النظر تلك، النتيجة النهائية لـ«تغيير النظام» هي انتشار الدول الفاشلة، وتقدُّم الجماعات المتطرفة التي تعيث فساداً عبر الحدود الوطنية وتنشر معها الاضطراب، والإرهاب، والهجرة الجماعية.[1]
في أحدث خطاباته إلى الأمَّة، وجَّه الرئيس الروسي بوتين إلى الولايات المتحدة وحلفائها، اتهامات بتحويل العراق وليبيا وسوريا إلى «منطقة من الفوضى والأناركية تهدد العالم أجمع».[2]
إن المقت الذي تحمله روسيا للثورات الشعبية جاء نتيجةً لتجربة مريرة خاضتها؛ فبصرف النظر عن التفاصيل كافةً، كانت «سلطة الشعب»، سواء في الجمهوريات الدستورية أو في قلب روسيا هي التي أسقطت الاتحاد السوفياتي، وهو الحَدَث الذي دعاه بوتين في قوله الشهير «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين».
أخذت روسيا، عبر تاريخها المضطرب، نصيبها العادل من الانتفاضات، والثورات، والحروب الأهلية. ويُعزز الخوف المستمر من الفتنة والتفكك، إيمان قطاعات كبيرة من النخبة الحاكمة (وخاصةً ما يسمى الحرس القديم من صفوف الجيش والأجهزة الأمنية) بفرض النظام على المواطنين عَبر سُلطةٍ تستخدم قبضتها الحديدية، إن لزم الأمر.
تدَّعي روسيا أنَّا تدعم الاستقرار، والشرعية، والنظام؛ وهي، كما تدعي بهذه الحجَّة، لا تدعم المستبدين، الذين قد يكونوا مكروهين لموسكو نفسها، وإنمَّا تمنع الفوضى.
وبهذا المعنى، فإنَّ الأنظمة الاستبدادية المُتصلبة التي كانت قد بسطت قبضتها على السلطة في منطقة الشرق الأوسط منذ خمسينيات القرن الماضي، التي انحاز كثيرٌ منها إلى السوفيات، في كل الأحوال أفضل من التشرذم والتطرف اللذين قد يعقبانها.
لم تُخدع موسكو في أي وقتٍ بالطغاة العرب، الذين غالباً ما يستخدمون صلاتهم الوثيقة بروسيا في إحراز مكاسب من الغرب، لكنهم -على الأقل- كيانٌ معروفٌ يضمن، من وجهة النظر الروسية، انحسار المشاكل داخل منطقة الشرق الأوسط دون أن تنتقل إلى خارجه.
السبب الثانية: سبب إستراتيجيا ينبع من المصلحة الذاتية، كما عرَّفها الكرملين. شهدت روسيا حلفاءها وأصدقاءها يُنتَزَعون من السُلطة، واحداً تلو الآخر نتيجة لتدخلات تقودها الولايات المتحدة، من الرئيس العراقي “صدام حسين” في عام 2003 إلى “معمر القذافي” في ليبيا بعد ثماني سنوات؛ فحين يحتشد المتظاهرون في شوارع العاصمة مُطالبين زعيم بلادهم بالتنحي، كما حدث في جورجيا (2003)، وأوكرانيا (2004-2005 و2013)، وتونس ومصر (2011)، فإنَّ موسكو تشتبه في وجود مؤامرة من الغرب.
ترفض روسيا أجندة «تعزيز الديمقراطية» باعتبارها أداة تُوجهها ضدها الولايات المتحدة الأميركية بغرض فرض هيمنتها على «الخارج القريب»، أو حتى على مناطق بعيدة عنها مثل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ووفقاً لهذا الرأي، لا تختلف سياسة أوباما في تقديم الدعم غير المباشر عن نهج قبل إدارة جورج دبليو بوش في نشر الديمقراطية بالقوَّة.
ما يهم موسكو حقاً، في أوقات عصيبة مثل تلك، هو العواقب وليس الدوافع؛ ففي أكثر الأحيان، يؤدي تغيير النظام إلى انتكاسٍ وخسائر. وقد صرَّحت موسكو بتلك الحجة مراراً وتكراراً، على لسان العديد من مسؤوليها، بما في ذلك بوتين نفسه: «في البلدان التي مرَّت.. “الربيع العربي” تفقد الشركات الروسية مواقعها السوقية، التي تراكمت على مدى عقودٍ في الأسواق المحلية.. وتملأ الكيانات الاقتصادية القادمة من الدول نفسها، التي قدَّمت يد العون في تغيير الأنظمة الحاكمة الفراغات التي نشأت في أعقاب الثورات».[3]
وفقاً لموسكو، العالم مكانٌ أحاديٌ؛ وفكرة أن يستفيد الجميع في الوقت نفسه -مجتمعات الشرق الأوسط والغرب وروسيا- لا يُمكن النظر إليها إلَّا على أنها مجرَّد غطاء لتبرير أجندة الولايات المتحدة التوسُّعية.
وبالتالي، ما وُضِع على المحك هو هيبة موسكو في أنظار الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء، كما يقول المثل: «لن نتخلَّى عن أصدقائنا».
إنَّ الدافع العميق وراء الموقف العدائي الذي تتخذه روسيا هو الخوف من أن ينتهي بها الحال أيضاً هدفاً لتغيير النظام. من الـ«ميدان» في كييف إلى ميدان التحرير، يرى الكرملين أنَّ سيناريو واحداً مُعدًّا تنفذه المنظمات غير الحكومية والحكومات الأميركية والأوروبية قد يضربها من الداخل.
وفي كلمة ألقاها خلال جلسة للجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب في فلاديقوقاز (عاصمة جمهورية أوسيتيا الشمالية المستقلة) في فبراير/شباط 2011، حذَّر الرئيس الروسي “ديمتري ميدفيديف” من تفكُّك «الدول ذات الكثافة السكانية المرتفعة في منطقة الشرق الأوسط» وصعود «المتعصبين»؛ فقال: «في وقت سابق، كانوا يُعدون سيناريو مثل هذا لروسيا، ولكنهم الآن سيحاولون تنفيذه. وعلى أيَّة حال، فإنَّ ذاك السيناريو لن يتحقَّق»[4]
ووفقاً لهذه الرؤية، قد يؤدي انتشار «التطرف» إلى تهديد الاستقرار الداخلي في روسيا، وتقليص نفوذها في الشؤون العالمية إلى حدٍ كبيرٍ. ويبدو أن احتجاجات المعارضة في أواخر عام 2011 وأوائل عام 2012 ضد التزوير الانتخابي في انتخابات مجلس الدوما قد وطَّدت هذه المخاوف في جانب الكرملين. ومع أنَّ نظام بوتين يتمتع بشعبية هائلة وقبضة مُحكمة على وسائل الإعلام، فإنَّه ما يزال يشعر بالخطر. ويُعزز هذا التصور الركود الاقتصادي، وانخفاض أسعار النفط، والتخفيضات في الميزانية، والعقوبات الغربية.
في الواقع، يُمكننا أن نصف سياسة موسكو في كثير من الأحيان بأنَّها براغماتية، وقادرة على التكيُّف، أو حتى انتهازية؛ فالكرملين يختار معاركه بعنايةٍ إدراكاً منه محدوديةَ موارده ونفوذه.
لم تسعَ روسيا إلى التدخُّل لدحر الربيع العربي سوى في سوريا في الأمم المتحدة، وعن طريق تسليح بشار الأسد، ومؤخراً بقواتٍ على أرض سوريا. ولكن في الحالات الأخرى كافةً، شاهدت روسيا ما يجري من بعيدٍ، وبَقَت على الحياد، وتعاملت مع الحكومات التي وصلت إلى السلطة بعد الانتفاضات الشعبية.
ولنفهم رد فعل روسيا تجاه الربيع العربي، ينبغي علينا أن نعود بالزمن قليلاً؛ فقبل أكثر من خمس سنوات، شهد لبنان احتجاجات واسعة تُعرف باسم «ثورة الأَرْز»، عقب اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. طالبت المسيرات الشعبية أثناء الاحتجاجات، من بين أمورٍ أخرى، باستقالة حكومة عمر كرامي الموالية لدمشق، وانسحاب القوات السورية، وإجراء تحقيق دولي في وفاة رئيس الوزراء السابق. قد يتوقَّع المرء أن تنحاز موسكو تماماً إلى جانب سوريا ووكلائها الشيعة في لبنان، ولكنَّها سعت إلى تحقيق التوازن. من جهة، انضمت روسيا إلى فرنسا، والولايات المتحدة الأميركية، وألمانيا في مجلس الأمن بالأمم المتحدة للمطالبة بتنفيذ القرار 1559 كاملاً، مع أنَّها قد امتنعت عن التصويت حين اعتُمد في سبتمبر/أيلول 2004. ولم تستخدم روسيا حق الفيتو ضد القرار رقم 1636 (31 أكتوبر/تشرين الأول 2005) والقرار رقم 1757 (30 مايو/أيار 2007) بإنشاء محكمة دولية للتحقيق في اغتيال الحريري، بعد أن بذلت وسعها في انتقاد تدخُّل هيئة خارجية في الشؤون الداخلية السورية.
لقد عرضت موسكو لبيع الأسلحة للجيش اللبناني، مُساهمةً في زيادة هشاشة سيادة الدولة اللبنانية، مع أنَّ ذلك لم يكُن ليُمثِّل قطرةً في محيط الدعم الذي تُقدمه روسيا إلى سوريا، وإلى حزب الله بشكلٍ أقل مباشرةً.
من ناحية أخرى، لم تألُ روسيا جهداً لتخفيف رد الأمم المتحدة، وبث التفرقة بين أعضاء تحالف «14 آذار» المُعادي للبنان عبر التواصل مع أصدقائها القدامى، مثل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، واتخاذ موقف الوسيط بين الغرب والأسد (وأسياده الإيرانيين).
ويوضح تحليل التكلفة والعائد لماذا جاء رد فعل روسيا تجاه الثورة الشعبية في تونس ومصر ضعيفاً؛ فلم تكُن موسكو قد استثمرت كثيراً مع زين العابدين بن علي أو حسني مبارك. وجد أولئك الحُكَّام المستبدون الذين أصابتهم الشيخوخة حلفاءهم الرئيسيين في الغرب، حيث كانت الحكومات معنية بقضايا مثل الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط وانتشار «التطرُّف الإسلامي».
وسجَّل التاريخ لوزيرة الخارجية الفرنسية ميشال آليو ماري عرضها لمساعدة السلطات التونسية في إخماد موجة الاحتجاجات. كانت مصر حليفةً لروسيا، لكنها اتخذت منعطفاً في سبعينيات القرن الماضي لبناء علاقات أمنية قوية مع الولايات المتحدة الأميركية. ونظراً إلى مساحتها وعدد سكانها الكبير، وقطاعها السياحي الهائل، كانت مصر أحد شركاء روسيا التجاريين الرئيسيين في المنطقة، ولكن لا تحتل مكانةً مُتقدمة في القائمة الكاملة للمناطق كافةً (رقم 34). وباختصار، لم تكُن المخاطر بالنسبة لموسكو كبيرةً كما كانت للولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال.
وكما هو متوقع، كان رد فعل روسيا متشككاً. تحدَّث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن خطر امتداد الاضطرابات من شمال إفريقيا، إلى أفغانستان، ومن ثمَّ إلى آسيا الوسطى.[5]
أُدرجت جماعة الإخوان المسلم في قائمة موسكو للمنظمات الإرهابية بقرار المحكمة العليا منذ عام 2003، بسبب صلتها المزعومة بالمتطرفين في شمال القوقاز، مثل زعيم الحرب الشيشاني شامل باساييف.
ومع ذلك، لم تُغلق روسيا الباب أمام الحُكَّام الجدد في القاهرة وتونس. في نهاية مارس/آذار 2011، زار لافروف مصر للتباحث مع المشير طنطاوي ووزير الخارجية نبيل العربي، بشأن استعادة التعاون الاقتصادي؛ فارتفع عدد السائحين الروسيين في العالم التالي بنسبة 35%. وكانت روسيا مٌستعدةً أيضاً للعمل مع الإخوان المسلمين بمجرَّد انتخاب محمد مرسي رئيساً في يونيو/حزيران عام 2012.
زار مرسي فلاديمير بوتين في سوتشي في إبريل/نيسان 2013، لطلب قرض بقيمة ملياري دولار مع وعدٍ بتأسيس «اتحاد حقيقي مع الاتحاد الروسي» الذي يُورِّد إلى مصر ما نسبته 40% من إجمالي استهلاكها من القمح.[6] ومع ذلك، فإنَّ بوتين لم يقبل لأنَّه لا يرى سبباً لدعم حكومة تؤيد المعارضة المناهضة للأسد في سوريا.
وأخيراً، ألقت روسيا ثقلها كاملاً خلف نظام ما بعد الانقلاب في يوليو/تموز 2013؛ فكانت أولى جولات عبد الفتاح السيسي الخارجية بعد توليه الرئاسة إلى موسكو في أغسطس/آب 2014، بعد أن زارها بالفعل مرتين أثناء توليه وزارة الدفاع.
وعموماً، تصرَّفت روسيا بمرونة؛ فحافظت على علاقات جيدة مع مصر رغم مخاوفها بشأن الثورات الشعبية وعواقبها. تُفضِّل موسكو، بالطبع، حُكَّاماً من أمثال طنطاوي والسيسي، لكنها لم تُكن لتقطع صلاتها بقيادةٍ إخوانية.
أمَّا تونس وعملية التحول الديمقراطي فيها فقد كانت قضية هامشية في موسكو. ومع ذلك، أبدت روسيا مرةً أخرى استعدادها لتعزيز العلاقات مع الحكومات التي خلفت زين العابدين بن علي، بهدف أساسي هو الحفاظ على مئات الآلاف من المصطافين الروسيين آمنين وسط المخاوف التي زادتها الهجمات الإرهابية المتكررة ضد السياح في شمال إفريقيا، مثلما حدث في مصر حين أدَّت قنبلة مزعومة في حادث تحطُّم طائرة روسية إلى وفاة 224 شخصاً في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015. وكما هو الحال دائماً، يتصدَّر الأمن قائمة أولويات روسيا.
وقد تُوَّج رد الفعل الروسي تجاه الربيع العربي سياستها في ليبيا وسوريا. في ليبيا.. تمسكت موسكو بالنهج المعتاد في تجنُّب المواجهة مع الغرب؛ فامتنعت عن التصويت في مجلس الأمن الدولي على فرض منطقة حظر جوي لمنع القذافي من اجتثاث التمرُّد ضد حكومته. كانت القيادة الروسية، وبوتين على رأسها، قد قبلت أنَّ أيام رجل ليبيا القوي صارت معدودة، ولم تكُن على استعداد للمخاطرة بمحاولة إنقاذه.
أمَّا سوريا فكانت قصةً مختلفةً تماماً بتحوَّل موقف موسكو بعد أن ألقى الكرملين باللوم على الغرب في خداع روسيا بشأن ليبيا، وتحميل ميدفيديف مسؤولية قرار إعطاء الضوء الأخضر للحملة الجوية التي شنَّتها بريطانيا وفرنسا هناك.
برَّرت روسيا دعمها الراسخ للنظام السوري بالدروس المستفادة من الماضي القريب؛ فلا يُمكن السماح بأن يلقى الأسد مصير القذافي الذي لا يُحسد عليه، ولم يَكُن لروسيا أن تقبل انتكاسةً أخرى لمجرَّد أن يذكرها الغرب بالخير. في وقت مبكر من شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، عرقلت روسيا، بمشاركة الصين، قرار مجلس الأمن في الأمم المتحدة الذي يدعو الأسد لوقف قمع المعارضة.
وفي مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس فرانسوا هولاند في يونيو/حزيران 2012، لخَّص بوتين، رئيس روسيا الحالي، وجهة نظره بطريقه الصريحة المعهودة: «نعرف جميعاً أي طاغيةٍ كان القذافي، ربَّما نعرف ذلك. لكن هل تعلمون ما حدث في ليبيا بعد ذلك؟ لماذا لا تكتبون عن ذلك؟ هل من خلفوه ملائكة؟ بالطبع لا».[7]
في الحقيقة، يعكس القرار الروسي بدعم الأسد حقائق السلطة؛ فقد أثبت الرئيس السوري أنَّه مستعدٌ لدرء أي تحدٍ لحكمه، ولم يتورَّع عن استخدام العنف للبقاء في السلطة، حاشداً دعماً محليًّا ودوليًّا. ولا تبدو الولايات المتحدة وحلفاؤها متحمسين لدخول المعركة، كما يؤكد الفشل في التدخُّل في عام 2013 حين أعلن الرئيس باراك أوباما، أنَّ استخدام النظام للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين «خط أحمر».
انتهز بوتين سلسلة من الفرص، بعد أن قرَّر أنَّ المكاسب تفوق الخسائر. ومثلما كان الحال في عام 2005، تأخذ موسكو ببعض التحوط؛ فتتحدث إلى قطاعات من المعارضة وإلى دول الخليج، ولكنَّها في النهاية تقف إلى صف الأسد وأصدقائه في طهران. لقد رفعت التدخُّل العسكري الحالي الحدود السابقة، ولكنه في الوقت نفسه زاد نفوذ بوتين أمام مجموعة واسعة من الأطراف: الأسد، وإيران، وبقية دول الشرق الأوسط، والولايات المتحدة، وأوروبا.
إنَّ ما يجمع موقف روسيا من سوريا وقضايا أخرى هي أولوية سياسة القوة على الإيديولوجية. فالحرب ليست صراعاً مبدئياً على الأفكار، وإنَّما ممارسة مُعتادة في الجغرافيا السياسية.
صحيحٌ أنَّ صُنَّاع السياسة الروسية يتحدثون كثيراً عن مكافحة التطرف الإسلامي باعتباره الشر الذي يُهدد البشرية جمعاء. لكن هذا ليس سوى أداة خطابية ساعدت روسيا والأسد في تهميش (وقمع) جوهر سردية الربيع العربي بشأن انتفاض الشعوب ضد الحكام الفاسدين. ويوفر تهديد داعش غطاءً مثالياً.
وبالطريقة نفسها التي تتهم روسيا بها الغرب باستخدام نشر الديمقراطية ذريعةً للتدخُّل، تستخدم روسيا التطرُّف لبسط نفوذها عن طريق مساعدة الأسد للتعامل مع كافة أطياف المعارضة، بغض النظر عن ميولهم الأيديولوجية والسياسية. وتُعَد العملية العسكرية الروسية أيضاً وثيقة تأمين تضمن لموسكو أن يكون لها رأي في حالة الاتفاق على صيغة لتقاسم السلطة في المحادثات الدبلوماسية متعددة الأطراف في جنيف، وهو ما يُستبعَد حدوثه.
وقد أظهرت روسيا القدرة على التكيف مع التغيير واستغلال الفرص. إنَّ المخاطر في سوريا مرتفعة للغاية، وأي سقوط للأسد سيكون نكسةً مروعةً لبوتين، ولكن التحوُّل السياسي في أماكن أخرى في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا، على غرار الربيع العربي، لن يكون بالضرورة مصدر ذعرٍ لموسكو. إذا وضعنا الخطاب المحافظ جانباً، فإنَّ روسيا تضبط سياستها وتُعيد تقييمها بحثاً عن فرص جديدة لتأمين مصالحها السياسية والتجارية.
ترجمة هافينغتون بوست عربي