هل يمكن اعتبار نشر موسكو لمعدات حربية في إيران نقطة تحول في ما يخص تنامي نفوذها من جهة، وضعف النفوذ الأميركي من جهة أخرى، وفي ما يجعلها في وقت قريب اللاعب الأول في الشرق الأوسط.
مرت خمسة أشهر على إعلان روسيا سحب “القسم الأكبر” من قواتها من سوريا، بعد أن أنجزت “المهمات الرئيسية المطلوبة” حسب زعمها، لكن الواقع جاء مغايرا لذلك الادعاء إذ شهد المزيد من التواجد العسكري الروسي، والاستخدام المفرط للأسلحة المحرمة دوليا كالقنابل العنقودية، وصولا إلى إعلانها قبل أيام عن استخدام قاعدة همدان الجوية الإيرانية لمواصلة حربها في سوريا.
يتضح اليوم بصورة أكبر إذن أن الهدف من “مسرحية” الانسحاب كان تثبيت تواجد روسيا العسكري والسياسي في سوريا. لم يكن الانسحاب واقعا، بقدر ما كان تهديدا مبطنا للرئيس السوري بشار الأسد، ورسالة مفادها أن موسكو هي من يتحكم بمستوى وأمد الدعم العسكري لنظامه المتداعي، وأن لها اليد العليا في “سوريا الأسد”.
من جهة أخرى، جاء ادعاء الانسحاب للوفاء بالسقف الزمني الذي وضعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمهمته العسكرية في سوريا، والذي حدده بفترة تمتد بين ثلاثة إلى ستة أشهر. وأخيرا، وهو الأهم، وجه الإعلان رسالة مفادها أن التواجد العسكري الروسي في سوريا لم يعد يرتبط بمهمات محددة زمنياً، ولا حتى بمحاربة شكل محدد من أشكال الإرهاب يتمظهر في الدولة الإسلامية، بل صار يرتبط بالحفاظ على استقرار المنطقة المعروفة بضعف مقاومتها لآفة الإرهاب والتي تحتاج إلى راعٍ، أو حارس، دولي. ولطالما شغلت الولايات المتحدة الأميركية وظيفة حارس الشرق الأوسط، ولكن روسيا قررت مزاحمتها، بقوة، على هذا الدور.
ويأتي الإعلان الروسي الحديث عن بدء استخدام قاعدة همدان العسكرية الجوية في إيران كتأكيد على الدور الروسي الجديد الطامح إلى لعب دور مركزي في مهمة “الحماية”؛ حماية “سيادة” الدول الشرعية التي تصر الولايات المتحدة الأميركية على انتهاكها من جهة، وحماية الأقليات المهددة من إرهاب الأغلبية المنتفضة على سيادة أنظمتها من جهة أخرى.
يساعد روسيا على لعب دورها الجديد تعافيها الجزئي من الوهن الشديد الذي فتك بمؤسساتها وبقياداتها السياسية في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي تظهر اليوم مستوى متقدما من الفعالية السياسية والعسكرية. مزيج من الاستخدام المفرط للقوة، مع إبداء قدر جيد من البراغماتية السياسية يظهر بتوسيع دائرة علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية. عقدت روسيا تحالفات متعددة الاتجاهات تجاوزت التناقضات السياسية القائمة في المنطقة، فأصبحت حليفا لأميركا وتركيا والبعض من دول الخليج العربي، بالتوازي مع توطد علاقاتها مع إيران وإسرائيل.
وقد أعاد الدور الروسي الجديد الحرب الباردة إلى الواجهة، وخصوصا مع انخراط القوات الروسية في قتال مباشر مع مجموعات عسكرية تتلقى تدريبا وتسليحا من الولايات المتحدة. وهو الأمر الذي لم يحدث منذ غزو روسيا لأفغانستان في عقد الثمانينات من القرن الماضي عندما دعمت أميركا المجاهدين الأفغان.
هل يمكن اعتبار نشر موسكو لمعدات حربية في إيران نقطة تحول بما يخص تنامي نفوذها من جهة، وضعف النفوذ الأميركي من جهة أخرى، وبما يجعلها في وقت قريب اللاعب الأول في الشرق الأوسط؟ هنالك هاجسان خلف استخدام روسيا للقاعدة العسكرية في إيران. الهاجس الأول والذي يمكن تبينه بسهولة هو فني أو “لوجستي”، ويتصل بحربها في سوريا وضرورة تخديم قواتها وحلفائها، في الوقت الذي لا تملك فيه إلا قاعدة عسكرية وحيدة في مطار حميميم في الساحل السوري.
الهاجس الثاني يتمثل في تعزيز تواجدها العسكري في المنطقة أملا في أن تحصد ثمار ذلك الإنفاق والجهد العسكري على شكل نفوذ سياسي في وقت قريب. قبل التدخل العسكري الروسي في سوريا، لم تكن لموسكو أي قاعدة عسكرية كبيرة يمكن أن تستخدم لشن الهجمات خارج أراضيها على الإطلاق. وفي غضون أقل من عام واحد أسست موسكو قاعدتين عسكريتين، في سوريا وفي إيران. القاعدة العسكرية الأخيرة تتطلب أن تعبر الطائرات الحربية الروسية أجواء العراق قبل التوجه إلى سوريا، وهو ما يسحب النفوذ الروسي على العراق أيضا بدرجة ما.
ورغم أن سياسة التوسع الروسية تبدو عنيدة ومثابرة، ولكننا بحاجة للمزيد من الوقت لاختبار مدى الاستمرارية، ولمعرفة إن كانت نتاج تفكير استراتيجي جيو- سياسي ينشد أهدافا بعيدة المدى، أم أنها نتاج روح التحدي التي يمتلكها فلاديمير بوتين والتي تهتم بتكريس “صورة” جديدة لروسيا على مستوى العالم من جهة، وعلى المستوى المحلي من جهة أخرى بما يؤبد سلطة القيصر ويكرسه قائدا أوحد.
العرب – سلام السعدي