ضاعفت الحرب الدائرة في سوريا من أثقال الحياة على جميع الفئات العمرية، خاصّة فئة الشباب في ظل مطاردة النظام وميليشياته لهم باعتبارهم مجرد رقم بجانب أرقام البنادق التي تبقى غنيمةً في حالة الهزيمة، أمّا حاملها فمصيره الفناء.
يروي زياد ذو الجسم النحيل الناعم اليدين من مناطق ريف حلب كيف ذهب إلى ثكنة عسكرية للالتحاق بداية الثورة والكل يترقب ماذا تصير به الحال، سوريا الخائفة التي انطفأت نارها منذ عقود بجرائم حافظ ورفعت، هل ستعود كسابق عهدها رافضة للذل والخنوع.
ذهب إلى ثكنة هنانو مثل باقي الشباب كما يصف بقوله “فهو أمر محتوم علينا مثل الليل والنهار في النهاية لا تبدأ الحياة إلا بالتسريح وسقوط شمس الحرية من جديد على رموش عيوننا”.
وصل الشاب بخطى مثقلة فهذه أول مرة يذهب بها إلى مقر قيادة للجيش وإذ بصوت عال يوقف تلك الخطوات فإذا بعنصر للنظام كان “يستنشق من سيجارته بنفس بطيء وقال له “ولا وين رايح شو مفكر حالك بالسوق ولا عم تتمشى مع خطيبتك”.
وقعت تلك الكلمات على مسامعه كالصاعقة، فيرد عليه “أنا جاي التحق وساوي فحص بعدين لسا ما وصلت الباب يا زلمة رعبتني” فاقترب منه ذلك الجندي وقال “وبتعرف تحكي كمان ما شاء الله عليك هون تنفيذ وبس ما في همسة وحدة بعد أن أمسك بكتفه وهزّه بشدة”.
إلى أن نادى عليه أحدهم حاملاً معه كأسين من الشاي حاله كحال الملتحقين وقال له “عوفوا شو بدك منو تعا نشرب شاي لا تخاف عليه بكرى رح يتعلم كلشي” حتى أفلت يده وهو في دهشة واستغراب كبيرين، “لساتني ماصرت عندن وهيك عملوا كيف لو صرت”
أكمل زياد طريقه إلى الساحة وكل الطريق يسمع زمجرة وأصواتاً تملأ المكان “قف، استاعد” مع زلزلة الأرض تحته التي بالكاد تحمله، تقدم نحوه جندي وقام بتفتيش دقيق إلى أن وجد قلماً معه وقال بسخرية “سيدي سيدي هذا مفكر حالو جاي على مدرسة أو يقدم امتحان” بقهقهة كبيرة وانفراجة فم كبيرة تبتلع دجاجة سمينة نتيجة الصياح بالولاء لرأس النظام.
القلم لم يفارقه طوال سنين منذ بداية تعلم الحروف الأولى إلى تلك اللحظة، فقد شعر بحرقة لأنه سلبه أعز ما يملك، قال زياد ” قلتلو مابدك ترجعو قالي شو ماسمعت قالي هذا نعتبرو سلاح ويشكل خطراً داخل الثكنة، ورماه بعيداً حتى مرت سيارة عسكرية خضراء وبدواليب سوداء لها شفرات كبيرة دهست القلم وسمعت صوت كسره وتهشميه الذي هشم قلبي وجعله ينزف”.
دخل بعدها إلى الساحة مع البقية واصفاً حاله حينها بقوله “كأننا خراف نساق إلى الجزار لتقديم وجبة لأولئك الخبيثين أو أننا مجرد كائن يعرف تنفيذ الأمر دون جدال أو علاج” .
حاول الجلوس بعيداً عن بقية الشباب بدأ الحارس ينادي على الشباب بالإشارة والرقم ونادى بصوت مرتفع على زياد “ليش مبعد ولا شو انت هون بموعد غرامي تعا الزاق ما بدي ضل طلع هون وهنيك ترا برجعك”.
ليعود مرة ثانية وينادي “ولا كلشي واحد ما حالق لحيتو يطلع على جنب” توجس زياد لحيته وكانت بازغة نوعاً ما لكنه رفض الخروج، حيث خرج مجند ومعه شفرة حلاقة ضربت عليها أشعة الشمس فأصدرت بريقا أجبره على غلق عينيه الحالمتين بغد أفضل وهو يتخيل المشهد كأنه قصّاب بدأ بنحر الخراف.
رأى زياد الجندي يحلق لحى الشباب الذين خرجوا بدون أدنى رأفة أو حس، وبدأت الدماء التي كان من حقها أن تكون على أرض الجولان أو فلسطين تسيل على وجوههم اليافعة، لتقع تلك القطرات من الدم تحت أقدام البوط العسكري معلناً نهاية الإنسان وأي معنى خاصاً بها في هذا الجيش.
ختم زياد إجراءاته داخل المكاتب من تواقيع على دفتره العسكري من قبل المجندات اللاتي حاولن إظهار شيء من الأنوثة المتبقية لديهن، ليخرج مسرعاً بثبات أكبر وعنفوان أشد من تلك المزبلة التي كشفت له حقائق كانت غائبة عنه طوال سنين يسمعها فقط في سهرات الرجال عن أفلامهم المضحكة عندما خدموا بذلك الجيش اللعين، ليرى بأم عينيه ويحكم بنفسه حكمه الأبدي الذي لا رجعة فيه.
قصة خبرية بقلم طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع