من منكم مثلي يعشق رائحة الأرض، بعد أن تعانق ذراتها حبات المطر في أول دخول لفصل الشتاء، إن هذه الرائحة من أفضل الروائح على الإطلاق، و كم يحمل الشتاء في طياته و رغم برودة لياليه دفئاً لأفراد العائلة عند تجمّعهم حول المدفأة و الباعث للدفء الحقيقي حبهم لبعضهم البعض، فهل تغيرت مفاهيم الشتاء و صفاته ليحمل صفات وحش بتنا نخافه ونخاف عتمة لياليه القاتلة من البرد.
هذا حال السوريين الذين شردتهم الحرب، و هدمت بيوتهم طائرات الظلم و الظالمين في مختلف أعراقهم وجنسياتهم، إلاّ أن هدفهم قد توحد على تشريد شعب ذنبه الكبير أنه طالب بالعيش بحرية وكرامة.
” حسان أبو يزن ” .. شاب من مهجري الغوظة الشرقية، يصف خوفه من وطأة الشتاء التي أصبحت ثقيلة عليه في بضع قطع من القماش المهترئ، التي لا تقي مطر الشتاء و لا برده القاسي و يقول ” بتنا نخاف فصل الشتاء ونحسب له ألف حساب، و أصبح ظله الثقيل يخيم على قلوبنا قبل حلوله بأسابيع بعد أن كنا نشتاق للشتاء و ننتظره لنتغنى بمطره و المشي تحتها ضاحكين.
و بنظرة يشوبها الخوف و الحزن يشير أبو يزن إلى طفليه يزن و عدي اللذين لم يبلغا الثالثة والرابعة من عمريهما “ما عساي أفعل لأبعد عن هذين الجسدين عجلة الشتاء القاسي و برودته الفتاكة في خيمة كهذه لا ترقى أن تحمل اسم الخيمة فكيف ستحمل اسم الملجأ من البرد !!”
وبالإشارة إلى الدروب الضيقة بين الخيام المتناثرة بشكل شبه عشوائي و ابتسامة السخرية من هذا القدر المحتوم قد اعتلت محياه الشاب الهرم معاً يقول أبو يزن ” لا تلبس أن تلامس حبات المطر الأرض حتى تغص تلك الدروب بالماء، جاعلة من الوحل سيد الموقف فلا نستطيع المشي والمرور خلالها إلا بشق الأنفس”.
و بالعودة بالذكرى و الغوص في ثناياها يقول أبو يزن و قد ظهر ارتعاش جسده والقشعريرة حطت راحتاها على بدنه ” كم كنت أعشق صوت أغنيات فيروز داخل الحافلة و قطرات المطر ترتطم بنافذتها كأنها تحاول جاهدة الوصول إلي، أما الآن فأبذل قصارى جهدي للاحتماء منها وتصل إلي دون أدنى عناء”.
و على بعد بضع الكيلو مترات من خيمة أبي يزن، نرى محمود من أبناء ريف ادلب الجنوبي يغازل زهرة خضراء (حبقة) مزروعة في وعاء من التنك أمام خيمتهم في مخيمات الشمال أو ربما يحكي لها همومه ولوعة الشوق في صدره، و يقول محمود ” على الرغم من تهدم معظم أجزاء البيت، إلاّ أننا رفضنا الخروج منه حتى أجبرنا على ذلك قبيل الشتاء الماضي، فأصبح قدوم فصل الشتاء ذكرى قاسية على قلبي وروحي”.
وبالإشارة إلى الزهرة أمامه و راحتي كفيه تحتضنانها، يقول محمود “جلبت معي هذه الحبقة التي كانت على عتبة نافذتي تمتزج رائحتها برائحة الشتاء والمطر، فلم يبق لي بعد الرحيل إلا ذكرى شتاء قاس وزهرة الحبق”.
فكم من نازح بين قطع القماش في تلك المخيمات، يحمل في طياته ذكريات الشتاء وعبق الشتاء و بات بعد الرحيل يخاف وقع الشتاء وبرده القاسي !!!!
محمد المعري
المركز الصحفي السوري