تتوارى ذكرى التهجير مع مآسي محفوفة بالقسوة .. “أبو يوسف” مهجّر من أحد أحياء حلب، يروي قصته مع الذكرى الخامسة لما وصفها بـ “التغريبة السورية”.
هرج ومرج وذعر وإضطراب وأصوات تعلو تدعو بالخراب، رأيتها هناك.. رأيتها وهي تعبر الطريق وقد ألقت عليه عينيها.. رأيتها تجري كجريها نحوي يوم خرجت من أنقاض مدرستي عندما تعرضنا لقصف ببرميل متفجر من قبل قوات النظام.. أصابها في ذلك الوقت شرخ في قدمها عندما كانت تنظف إحدى الشقق.. وعندما رأتني جرت نحوي وكأنها روح بلا جسد لتأخذني بين ذراعيها وتربت على رأسي بيديها اللتان شققتهما الأيام.
سألتها وقد سيطر الرعب على قلبي فأخبرتني بأن غريزتها للبقاء هي ما دفعتها لذلك لأنها لو كانت فقدتني لما طال لها بعد ذلك البقاء وقالت: “مستعدة أن أعيش عرجاء خير لي من أن أعيش ثكلى”.
رأيتها تعبر الطريق أمام السيارات وكأّنّ الموت لم يكن له في ذهنها أيّ معنى.
لحظات ووجدتها هناك وفي عينيها نظرة اعتدت عليها ولكنها كانت تحدّق في المكان، فقد جاءت مسرعة عندما رأت سياره الإسعاف تمر، وتحولت تلك النظرة في عينيها إلى نظرة لم أعرفها من قبل عندما لم تجد قفص الفاكهة الذي جلست أمامه منذ أيام لتوفير علاج أبي وأخي الصغير.
رأيتها صامته ذاهلة دموعها تسيل على وجنتيها ولكن نوعاً آخر من القلق ظهر في وجهها، ورأيتها تلتفت وكأنها تذكرت شئاً ما أنساها ما حدث.
سمعت صوت مكابح سيارة ورأيتها تجري ناحية المستشفى التي كانت قد عبرت من جهتها وتذكرت وقتها أنّ أخي كان بيديها… وأخترقت أذني لحظتها صرخة لم أسمعها من قبل.
استيقظت من نومي على صرختها فزعاً مذعوراً فشعرت بأن بيتنا على وشك السقوط.. توجهت ناحية الغرفة المجاورة ونبضات قلبي تتعالى، فتفاجأت بمنظر الغرفة وهي هشة مدمرة فوق رؤوسنا.
وسقطت عيني على منظر غرّز في قلبي جرحاً شديداً لن يزول عني بقية حياتي، فقد رأيت أبي على سريره مضرجاً بالدماء تحوطه يد أمي وتتساقط عليه أنهار من دموعها التي لم تتوقف يوماً.
رأيت أخي يضع رأسه على رأس أبيه وكأنه يرى ما أصابه… دارت بيّ الدنيا وسمعت أصواتاً من حولي تتساءل عن سبب قتلهم لرجل مسنّ وهو نائم في فراشه، غاب عنّي الوعي وليتني أنتظرت قليلاً علني أسمع الإجابة.
هذا ثمن الحرية التي ثرنا لأجلها، وهذه الذكرى الدّامية التي كانت أقوى من أن تنسينا إياها الأيام، حلب التي دفنت فيها آخر ما تبقى ممن أحبهم، ودفنت معه روح قلبي، أعتصر اليوم لأجلها وسأنتظر يوم العودة إليها بلا حكم الأسد.
قصة خبرية/ محمود المعراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع