“كانت امرأة يضاهي وسع قلبها الأرض والسماء معاً، كانت امرأة ورجلا، كانت تملأ حارتنا البشعة حياة وحيث تمشي تنشر من حولها أحاديث فرح، لمنزلها سكينة ورائحة جميلة فواحة يستشعرها المار من الزقاق، ولكن آه كم عانت”
هكذا وصفت زهراء الحاجة أمينة “اسم مستعار” وقصت عليّ حكايتها.
“لا أعلم كيف أصف لك مهارتها في التوفيق بين عملها خارج وداخل المنزل وبين أناقتها الفائقة، يخيل إليك عندما تراها أنها أميرة ولديها الكثير من الخدم ، كانت يداها ناعمتان جداً ، بيضاء، طويلة ، رشيقة القامة، حساسة جدًا وطيبة، لن أقول لدرجة السذاجة ولكنها كانت طيبة لدرجة زائدة.
وتابعت “تزوجت الحاجة أمينة في سن الثانية عشر ، عانت غياب زوجها لمدة خمسة وعشرين عاماً في لبنان لأجل العمل، كان يأتي مرة كل أسبوع ، وقاست تسلط أهله عليها وجبروتهم.
الوحدة
وحيدة بلا أخ أو أخت ولا أم أو أب ، غريبة في بلدة نائية في أحد أرياف ادلب الشمالية.
كانت الحاجة أمينة امرأة جبارة حين تحملت أعباء أوكلها إليها زوجها ثم سافر.
_صباح الخير.
_صباح النور.
_ كيف حالك ياجارتنا ؟
_ لا بأس الحمد لله كيف حالك يا أبا محمد
_ (يضحك بشدة) ويقول: ” الحمد لله ولكن من بنى هذا السور ، لقد مررت من هنا عندما ذهبت أصلي الفجر ، ولم يكن مبنيًا بعد؟
_ أنا بنيته يا أبا محمد.
_ والله أنت امرأة بألف رجل.
_ الحمد لله.
ذهب أبو محمد وهو يتمتم” يا حيف على الرجال”
ففي الشتاء كان السطح يذرف الماء فوق عتبة منزلها بشدة ويغرق أثاث منزلها الصغير المليء بأغراض ادخرت ثمنها من مصروفها الخاص، فاضطرت إلى حلّ المشكلة بنفسها بعد أن رفض زوجها.
https://www.facebook.com/syrianpresscenter/videos/759196891867664
لقد منّ الله عليها بخمسة أولاد وبنات أحدهم كالبدر جمالاً وأثقلت تربيتهم كاهلها، تقول الحاجة أمينة : “يا ابنتي إنّ مرض أحدهم بلاء عليّ، فأنا أقطع ثلاثة كيلومترات مشياً للوصول إلى الطبيب، وآه كم مرضوا في هذا العمر، أهل زوجي كانوا بمثابة عبء كئيب عظيم، كان ينهال أحدهم بالشتائم عليّ حين أرفض تقديم المال والمؤونة له، لقد ضربني أخو زوجي ذات مرة وأخذ مني ذهبي بالقوة، قلبي مليء بأيام مرة وحرقة استوطنت قلبي على أيام شبابي التي ذهبت سدىً”.
لقد نهشت الدروب من أقدامها، تقضي يومها بين ذهاب إلى البلدة المجاورة لجلب الطعام ثم تنتظر عودة أطفالها من المدرسة لتغلق ذاك الباب الأخضر الذي صار يوحي بالوحدة على مرّ السنين، تصاعبت أيامها وأقفرت السنين أمامها وأظلمت الدنيا في عينيها. وانتقلت بعد سنوات إلى مدينة حمص حيث عمل زوجها الجديد، لتبدأ فصلًا جديدًا من الحكاية.
أوجعت قلبي زهراء حين روت لي تفاصيل حياتها في الفترة الأخيرة فقد أصيب زوجها بمرض نفسي حوّل حياتهم إلى جحيم ، ضرب وشتائم وإهانات بشتى الطرق طوال يومها.
“أضرم بنا النار ذات مرة يا ابنتي”
حزن خيم على الموقف حين سمعت هذه الكلمات وبكت زهراء وهي تقول إن الظلم ظلمات يوم القيامة.
أزهرت الثورة السورية وقالت الحاجة أمينة كلمات حفظناها جميعنا: “اليوم ابتدأت حريتي ، أشعر أن كلّ العالم أصبح يحس الوجع الذي أعيشه وحدي منذ ٣٠ سنة”
بدأت حياة الوجع ، حياة النزوح ، وسافر الأبناء وانقطع التواصل بشكل شبه تام بينهم وبين الحاجة.
“واجهتُ أياماً سوداء وأنا أبحث عن منزل يؤويني ، عملت بالحياكة وأكاد لا أرى إلا عن بعيد ومع ذلك عملت ، دائمًا أحن إلى منزلي الذي تشهد لي أحجاره وأرضه وسماؤه، دائمًا أبكي غياب أولادي الذين ربيتهم وأفنيت عمري من أجلهم واليوم لا أرى أحدًا منهم.. ليس لي إلا الله”
لقاء الحاجة في المخيمات بعد غياب طويل
مرت سنوات واختفت الحاجة أمينة حتى ظننا أنها توفيت، ثم تتابع زهراء وتقول : “تكبدنا عناءً طويلاً حتى استطعنا أن نتواصل مع الحاجة وزرناها أخيراً، ووجدنا عنوانها بين مخيمات النزوح المكتظة جداً في منطقة أطمة ، المتراصة كأحجار الفسيفساء الزرقاء التي تروي آلاف الحكايات الحزينة.
كانت تجلس في إحدى الخيام وقد بدا عليها التقدم في العمر وارتسمت تجاعيد كخارطة قديمة منسية فوق وجنتين ورديتين”
_لا تنسينا من دعواتك ياحاجة
_ وكيف أنسى يا ابنتي؟
_لا تبكي يا أمي إن شاء الله سأزورك دائماً
_أنا أبكي غياب أولادي، كنت أتمنى أن يسألوا عني كما فعلت أنت.
_لا تبكي يا أمي، هل تقبلين بي ابنة لك؟
تحضنها الحاجة أمينة وتذرف المزيد من الدموع وتغني بصوت حنون شجن إحدى المواويل الشعبية عن الحنين وتقول : “صبرت لأجل أولادي واليوم أصبر بسببهم وأبكي فراقهم، وصبرت فوق صبري صبرين.. فالحمد لله على أقدار الله”
هكذا يكون للحاجة أمينة دين في عنق الحياة ، وقصتها إحدى قصص الكفاح والمعاناة التي ترجمتها بكلمات تعجز عن ترجمة شعور المرارة التي تشعر بها هي وكل أبجديات الدنيا.