مشهد متكرّر ربّما بات مألوفاً للكثير ممن ذاق مرار و لوعة التهجير خلال هذه السنين العجاف، متكئٌ على جدران منزله الجديد بل بقايا منزل، انتقل إليه بعد معاناة طويلة للوصول إلى مكان يستقر فيه مع أطفاله و لو كان سقف وجدران مهترئة.
دفعني فضولي للاقتراب أكثر و عقلي يتساءل عن شروده ذاك، أيُّ بلاء وهم حلّ عليه، حتى أوصله إلى هذا الحال ؟ اقتربت نحوه شيئاً فشيئاً إلى أن شعر بوجودي، كان في حالة انشغال بتحريك نظارته الطبية التي أخفت وراءها دموع قهر وحزن كبيرين، و ما إن تأكد أني أدنو نحوه حتى أخفى دموعه و مسحها بطرف يده بخجل و استحياء مع إحساسه بالاستغراب للوهلة الأولى.
ألقيت السلام وقلت له مرحباً يا عم، أجاب بصوت مبحوح متعب ” أهلين بنتي” أذنته بالجلوس ” أي تفضلي”، أخبرته عن نفسي ومن أكون وبدأت بالحديث بسؤالي عن صحته وأحواله لأضمن ارتياحه لي ولحديثي، شعرت أن الوقت أصبح مناسب لأجري مقابلتي معه فكان سؤالي له كيف وصلت إلى هنا؟ فقال بصوت شبه مخفي بعد أن اشتد القصف على بلدتي واستاء الوضع أصبحت بلدتي خاوية دون صوت إلا صوت المدافع وصواريخ الطائرات، أرسلت عائلتي بسيارة أجرة مع القليل من الأمتعة وبقيت بعدهم عدة أيام، لكن رأيت أن البقاء أصبح مستحيلاً و بالكاد عثرت على وسيلة نقل أوصلتني إليهم، حيث كانوا ماكثين تحت الأشجار على أطراف المدينة ينتظرون فرجاً من الله.
عمَّ الصمت لبرهة لأعاود سؤالي كيف وصلتم إلى هذا المنزل؟! أجابني وفي هذه المرّة لم يستطع كبت دموعه ” آه يا ابنتي اتركيها لربك”، أكمل حديثه .. فاعل خير شاهدنا تحت الأشجار فأخبرني أن لديه ابنته طالبة جامعية تقطن منزل مع صديقاتها و هنّ في عطلة مؤقتة بقريتهم المجاورة، يمكنك الذهاب إليه ريثما تجد مكاناً تسكنه .. كانت فرحة أطفالي لا توصف، ظنّاً منهم أن المأساة ستنتهي هناك.
لكن يا ابنتي في هذه الدنيا يوجد الجيد و يوجد السيء، ما إن شاهدنا مالك المنزل أول يوم، حتى بدأ بالتذمر و التأفأف علينا، فأرسل إلى والد الفتاة و أخبره أن يخرجنا من المنزل لأنه على وصفه أسكن طالبات و ليس عائلة “نازحة”، و بالفعل خرجنا إلى حيث لا نعلم، و قبل أن يحل المساء، جاء بعض الأشخاص و ذهبوا بنا إلى مسجد قريب قطنته العديد من العائلات المهجرة، لمن لم يطل بنا المكوث إلى أن استدلينا إلى هذا المنزل المهدم كما ترين ” نعمة الله .. أحسن من الشارع “.
أنهى العم حديثه و أشاح وجه عنّي غارقاً بشرود عميق وكأن حاله يقول ما الذي اقترفناه حتى نذل و نُقهر، ما الذي أوصلنا هذه الحال وقهر الرجال اجتمع في دمعة، سقطت سهواً من عينينه المجعدتين دون إذن منه.
بقلم : سهير الاسماعيل
المركز الصحفي السوري