في الثورة السورية، أو ما بقي منها، غالباً ما يستخدم مصطلحا الداخل والخارج بمعنى جغرافي سطحي، تترتب عليه نتائج سياسية سطحية بدورها، فالداخل، في الفهم الشائع، هو ما يوجد في سورية، والخارج هو العكس: ما ليس داخلها. ولأن هذا النمط من الفهم يفصل الداخل والخارج فصلاً تاماً عن بعضهما، فإنه لا تقوم بينهما في السياسة مناطق تواصل أو تفاعل مؤثرة، وينجح النظام، وبعض معارضيه، في ربط مفهومي الداخل والخارج بأحكام قيمية، ما أن تُطبّق على الواقع السياسي، حتى تنتج مقاربات غير سياسية حوله، تجعل معارضي الداخل وطنيين وثوريين بامتياز، بالمقارنة مع مناضلي الخارج الذين تحوم حولهم شكوك، ويتعرضون لاتهامات متنوعة.
هذه النظرة التي تربط سلامة العمل الوطني بالموقع الجغرافي وليدة “عقدة نقص”، تتبناها جهات في معارضة الخارج، تقيم ارتباطاً سببياً بين صحة خطها وعملها وبين انتقالها “الجسدي” إلى الداخل، إلى أراضي سورية الوطنية، وتزعم أن من يعيشون خارجها يعجزون، لهذا السبب بالذات، عن اعتماد سياسات ومواقف صحيحة حيال قضايا الداخل، التي تنفرد بكونها، وحدها، قضايا الثورة والشعب. بهذا الفهم، تصير خطوات الائتلاف السياسية وقراراته خارجية، أو بالأحرى برانية، حتى عندما تنصب على أكثر قضايا الداخل حساسية وصميمية، ويخضع العقل السياسي المعارض لمشكلة مفتعلة ذات عقابيل ضارة، تضعه في مواجهة إكراهَين:
ينبع أولهما من رؤية تجعل الموقع الخارجي، الذي يقود الثورة ويمثلها، أقل قيمة وصدقية ومركزية من الموقع الداخلي، رغم خضوع الأخير لاستبداد قاتل، يجعل معارضته مستحيلة أو ضعيفة أو خطرة على من يمارسونها، وغلبة الدور الدولي على أدوار الفاعلين السوريين، وخصوصاً منهم الذين يعيشون ويناضلون في الداخل، وما يحتمه هذان العاملان من تهميش للداخل في ظل ائتلاف بقي خارجيّ التوجه، خلال الفترة التي أعقبت إقامته. ترجع هذه الرؤية المغلوطة إلى تطبيق مقولة جغرافية داخلية المركز على مجال سياسي بقي مركزه الرئيس الخارج، المعترف به عربياً ودولياً، مع أن فاعليته اتسمت، دوماً بمحدوديتها وكثرة تخبطها. وللعلم، لا ينتقص الفصل بين الداخل والخارج من أهمية وقيمة الحضور الداخلي لتنظيمات ورموز خارجية، تستمد أهميتها من موقفها، وليس من موقعها، لكونها تركّز، في معظم ما تدلي به من آراء وتتخذه من مواقف، على الداخل وقضاياه الرئيسة، وما يجب أن يكون عليه وضع الخارج ودوره، لكي يقوم بما عليه من واجبات تجاهها. بدورها، تلغي المقاومة المسلحة الفصل بين الداخل والخارج، بفضل طابعها التفاعلي: الداخلي/ الخارجي، وما تنجزه، في هذين المجالين، من أعمال يمكن لنتائجها أن تكون متكاملة، إذا أحسن استغلالها سياسياً.
وينبع ثانيهما من خطأ الاعتقاد بصعوبة، وأحياناً استحالة، تطابق خيارات الخارج مع خيارات الداخل ومصالحه، بعد أن انفصل بعض معارضي الداخل عن الائتلاف الوطني، ورفضوا، بهذا القدر أو ذاك، صفته وبعض أدواره ممثلاً للقضية الوطنية والثورية السورية، ما جعل تفاعله معهم واهناً أو سلبياً، وجعلهم ينافسونه، ويعملون للحد من دوره وطابعه التمثيلي الجامع. في المقابل، أخذ بعض قادة الائتلاف يعزون نواقص عملهم وأخطاءهم إلى القطيعة بين فصائل من معارضة الداخل وبينهم، ويقيمون ضرباً من التطابق بين إصلاح الائتلاف واحتواء هؤلاء، بنقله إلى الداخل، كأن ما يقترفونه من أخطاء لا يرجع إلى قرارات وأولويات سياسية، بل هو نتاج حتمية جغرافية، لا قدرة لأحد على الإفلات من نتائجها.
ليس كل قرار يصدر في الخارج سيئاً. وليس كل من يعيش في الداخل مناضلاً. ولا بد من اعتبار السوريين جسداً واحداً، ينشط في ساحة نضالية مشتركة، تجسدها أهداف شعبهم وآلامه وتضحياته، وقد توزع السوريون جغرافياً على دول عديدة، بعد اقتلاعهم من وطنهم، وطرد قطاعات واسعة منهم إلى خارجه، مع ما صاحب هذه المأساة من مصاعب، تلزم من يحتل موقعاً نضالياً مقرراً بابتكار أساليب وخطط عملية تخدم شعبه، بما هو جسد واحد له مصالح موحدة ومشتركة، وبرؤية ترى في الداخل والخارج مفهومين سياسيين، تتعين هويتهما وعلاقاتهما بنضال الشعب في سبيل حريته، وبسوية وعيه الثوري وقدرة قياداته وقواه على الانتصار في معركة مصيرية، فرضها الطغيان عليه.
لو كان النضال يتعين بأحكام قيمة جغرافية، لكان هناك، اليوم، شعبان سوريان، داخلي وخارجي. ولما تضامن أحدهما مع الآخر، ولاستحال تفاعلهما الإيجابي مع أية أفكار ومواقف مشتركة، ولما ظلت سورية وطن شعب واحد، هتف له المتظاهرون السلميون، ويقاتل في سبيله، منذ ثلاثة أعوام ونصف العام، مقاومون وطنيون، يضحون لتحقيق هدفٍ لا يحيدون عنه، هو الحرية.