لم يكن يوم 23 فبراير 2014 يومًا عاديًّا، كنت أجلس في صفي بمدرسة أطمة، قريتي الصغيرة على الحدود التركية السورية، والتي كانت تبدو لي بعيدةً عن الخطر، أو هكذا أقنعنا أنفسنا.
أجلس في مقعدي بجانب ابنة خالتي نهال، حين دوى صوتٌ لم أسمعه من قبل، صوتٌ كأن السماء سقطت على الأرض. في لحظة اهتزت الجدران، تهشمت النوافذ، وتناثر الزجاج في الهواء كأن السماء أمطرت شظايا. صوت الانفجار غطى على صراخ الأطفال والمعلمين. في ثوانٍ امتلأ الصف بالدخان والغبار، واختلطت رائحة البارود برائحة الطفولة الخائفة. رأيت الدخان يتصاعد من جهة مستشفى أورينت الميداني، وأدركت أن الانفجار لم يكن بعيدًا.
الدماء تجمدت في عروقي لأن المستشفى على بعد أمتارٍ فقط من منزلي.
نهال سحبتني من يدي تخرجني من الرعب الذي جمد أطرافي وهي ترتجف: “أمان، لازم نهرب، لازم نروح عالبيت!”
لكنني صرخت في وجهها: “لا! تعي معي ع بيتي، بيتي أقرب. ما بأمن عليكي تروحي لحالك!”.
ركضنا خارج المدرسة، وكان طريق العودة أشبه برحلة إلى الجحيم. كان هناك أشخاص على الأرض، بعضهم لم يتحرك، وبعضهم كان يحاول النهوض لكنه يسقط مجددًا. كنت أرى وجوههم لكنها لم تعد وجوهًا، بل كانت أقنعة من الغبار والدم.
“باباااااااا!”
التفت لأرى طفلة تصرخ وتضرب بيديها على نافذة سيارةٍ تشتعل بالنيران. كانت تبكي، تضرب الزجاج، لكن لم يكن هناك من يسمع.
إلا رجلٌ واحد…
كان الشيخ قتيبة، معلمي في معهد حفظ القرآن، يقف خارج السيارة يبكي طفلته العالقة بالسيارة! يضرب بقبضتيه العاريتين على النافذة حتى تكسرت. ألقى بنفسه وسط النيران وسحب جسدها الصغير. احترقت يديه، احترق وجهه، لكنه لم يتوقف، لم يصرخ. فقط ضمها إلى صدره وسقط أرضًا. لم يعد قادرًا على الوقوف، لكن ابنته كانت بين ذراعيه، تتشبث به بقوة، كأنها تعي أنه كان مستعدًا ليحترق من أجلها.
نهال تصرخ بي: “لا تطّلعي، بس اركضي!”
لم أدر كيف أكملنا طريقنا إلى المنزل، فقط أتذكر أنني كنت أمسك يد نهال بقوة وكأنني أخشى أن تضيع مني وسط هذا الدمار.
رأيت منزلي، اقتربت منه، تمنيت لو أنني لم أفعل.
الزجاج كان مهشمًا، متناثرًا على الأرض كأنه بحرٌ من الشظايا. المدفأة لم تكن في مكانها، بل مقلوبةً وسط الغرفة، والشحوار الأسود يغطي الجدران والسقف، كأن البيت قد احترق دون نار. شعرت بأنني لا أعرف هذا المكان، كأنني أدخل بيت شخص آخر، بيتًا ابتلعته الحرب في لحظة.
رأيت أمي وأخي الصغير في المنزل بخير، لم يمسسهما سوء، فارتحت قليلًا. كان قلبي مايزال يخبئ في جوفه رعب تلك اللحظة، لكن رؤية وجوههم على حالها، آمنة، أزال عني بعضًا من ذلك الهم الثقيل.
بعد دقائق، رأيت خالي سميح قادمًا من وسط القرية، يركض بكل ما أوتي من قوة. شعرُه غير مرتب، ملابسه مغطاة بالغبار، وجهه مليء بالهلع، وصوته يرتجف وهو ينادينا. ما إن رآنا جميعًا بخير حتى تنفس الصعداء.
ذلك التفجير أسفر عن استشهاد 16 شخصًا وإصابة 65 آخرين، بينهم أفراد من الكادر الطبي والمرضى والمراجعين.
الكثير من الأطفال حول سوريا عاشوا مثل هذه الأحداث التي حصلت مع أمان ونهال، حيث يعيشون تجارب صادمة تؤثر على صحتهم النفسية والجسدية. مشاهد العنف والدمار تفقدهم شعور الأمان وتؤثر على نموهم وتطورهم.
تفجير أطمة لم يكن مجرد رقم في سجل الضحايا، بل كان محطة فارقة في ذاكرة أطفال عاشوا الحرب بكل تفاصيلها. الحرب في سوريا لم تكن حرب جيوش فقط، بل كانت حربًا على الطفولة، تركت جروحًا في أرواح صغيرة لم تكن مستعدة لتحمل هذا الكم من الألم والخوف.