في كل مرة يذهب مع والديه أو أقاربه إلى حلب يرى “زيد” السكة الحديدية وتشتاق نفسه لرؤية القطار أو ما يسميه الناس “البابور” الذي دائماً ما كان يسمع عنه في سهرات أهله الليلية بجانب مواقد التدفئة وعن قتله لمئات من رؤوس أغنامهم عند قطع السكة للجانب الأخر.
وسط تلك الفظائع التي كانت تطال سمعة القطار في سوريا، كان لدى زيد شيء آخر، فهو دائماً عندما يذهب إلى المدينة يحاول سرقة نفسه من أهله وسط غيابهم، أو مستغلاً انشغالهم مع الباعة، ليذهب إلى السكة ويضع أذنه عليها لأنه سمع أقاويل باكتشاف صوت القطار حال قدومه لكنه كل مرة يخيب سمعه ولا يراه، ولم يكن لديه تلفاز حتى يحظى برؤية برنامج وثائقي عن القطارات.
في يوم من الأيام قبل يوم العيد كان زيد برفقة أخوته وعائلته لشراء ملابس العيد والحلويات اللذيذة التي دائماً ما كان يُغير عليها أثناء غياب أمه ويأخذ قطعة واحدة لكيلا يُكتشف أمره وإذ بإحدى شقيقاته الصغيرات وسط زحمة السوق والناس واختلاط أصوات الباعة والتجار قد ضاعت عنهم عندما صرخ أحدهم عن عدم وجودها معهم لتعلو الصراخات في المكان الصاخب أصلاً والناس توقفوا حولهم وتجمدت أيديهم وأجسادهم واختفت الأصوات جميعها إلا صوت الأم والأب للبحث عن الطفلة.
تهافت الناس معهم في العثور عليها، فقد تكون أمام محل للحلوى أو آخر للألعاب غير مدركة ما يجول حولها.
وإذ بأحد الناس يصرخ قائلاً “قد تكون ذهبت إلى السكة”، فهي تشبه أخاها فحلمها أيضاً أن ترى القطار، فزيد لم يكن الوحيد المتأمل رؤية القطار أو البابور، فقلوب جميع الأطفال تعتصر لرؤية القطار وكيفية مشيه وكـأنه من كائنات الفضاء أو الألغاز التي تشوّقهم لحلها.
ومن بعيد يأتي صوت آخر نعم الطفلة على السكة إنها هناك وقد أخذتها الخطوات بعيداً عن مكان البازار، فيما بدأ الأب والأم يهرعان بدقات وخطىً متسارعة بكل ما أوتيا من طاقة قبل وصول شيء آخر لها يخشيانه، قد يكون الأخير.
بدأ الجميع بالركض لإنقاذها، فيما لم تسمع هي تلك الصرخات التي ملأت رحاب الكون، لأن حلم رؤية القطار قد ملأ قلبها وجميع حواسها، القطار الذي تحبه جداً وتعشق رؤيته قد لا يبادلها نفس المشاعر، فهو لا يعرف معنى أن تكون طفلاً تشع من عينه بارقة أمل بأخذ نظرة على هذا المخلوق الطويل وكيف يجر بعضه بعضاً.
أسرع أحد الناس بعد سقوط والديها نتيجة الهلع والحزن الشديدين بعد مشاهدة صغيرتهم على سكة الحديد الذي لا يعرف الرحمة في مشهد موت أو حياة، ليلتقط الطفلة ويوصلها إلى أمها وأبيها اللذين على صوت بكائهما في رحاب الازدحام، وزيد معهم ليسمع صوت القطار فقط دون تحقيق حلمه برؤيته وسط بكاء الأهل الذي لم يتوقف وهو لا يدري ما القصة.
قصة خبرية بقلم طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع