ومنذ اندلاع الثورة السورية، يعتبر جوبيه أن رئيس النظام السوري بشار الأسد هو المسؤول بالدرجة الأولى عن قتل وتشريد وإرهاب الشعب السوري. وقال، في أحد حواراته أخيراً، “لست متعصباً لبوتين، ولست أيضاً حاقداً عليه. أنا أدافع عن مصالح فرنسا وعن السلام”. وفي نبرة لا تخلو من التهكم نصح جوبيه منافسه فيون، الأسبوع الماضي، “بعدم المبالغة في شرب الفودكا” في إشارة لاذعة إلى انحيازه الأعمى إلى معسكر بوتين. وكان رئيس الوزراء الأسبق نشر مقالاً لافتاً بعنوان “فَشَلُنا السوري” في أكتوبر/تشرين الأول 2015 شرح فيه رؤيته للأزمة السورية، وجاء في مستهله “استراتيجية روسيا واضحة في سورية: بوتين يريد أن يحافظ على الأسد ومعسكره في السلطة بأي ثمن، وهو مقتنع بأن الأسد حليفه الرئيسي في المنطقة، وهو القادر على ضمان استقرار البلد. لكن نحن أيضاً، أوروبيين وأميركيين، هدفنا واضح وهو استبعاد الأسد، لأنه من وجهة نظرنا يبقى هو المسؤول عن تصفية شعبه ودفع المعارضة في اتجاه التطرف، وهو أيضاً المسؤول عن صعود داعش. نريد التخلص من الأسد من أجل تسهيل عملية الانتقال التي يجب أن تتم من دونه”. وخلص جوبيه، في مقاله المطول، إلى أن الغرب عجز عن تحقيق هذه الرؤية بسبب التردد الأميركي، وفي النهاية وجد الأوروبيون أنفسهم خارج اللعبة السورية، وفرنسا وحيدة بلا سند أو قوة على التأثير. ورغم كل هذه الانتقادات يدعو جوبيه، من باب الأعراف الدبلوماسية، وبالنظر إلى ضعف الدور الفرنسي والتقارب المرتقب بين الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب مع الرئيس الروسي، إلى ضرورة الحوار مع موسكو بصراحة وشفافية لإيجاد صيغة سياسية للأزمة السورية.
وفيما يخص القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، كان جوبيه دوماً منحازاً لرؤية ديغولية تتمسك في حدود معينة بلعب دور وسطي والدفاع عن حق الفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية، مع التأكيد على لازمة “حق اسرائيل في ضمان أمنها”، وهو ما يجر عليه انتقادات منتظمة من طرف إسرائيل والمنظمات اليهودية في فرنسا. وكان جوبيه تعرض لهجمة إسرائيلية شرسة، صيف العام 2011، عندما كان وزيراً للخارجية. وانتقد في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية مبدأ يهودية إسرائيل. وقال “أعتقد أن وصف إسرائيل بالدولة اليهودية يطرح عدة مشاكل. حسب ما أعلم هناك اليهود في إسرائيل، لكن هناك العرب أيضاً. ونحن في فرنسا وفي أوروبا لدينا نظرة علمانية للدولة لا يمكن اختزالها في الانتماء الديني”. أيضاً امتعضت المنظمات اليهودية من جوبيه صيف 2014، عندما انتقد غارات الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة واعتبرها فاشلة عسكرياً و”عبثية، وتضر بالسكان المدنيين وتساعد على نشر الكراهية”.
والواقع أن إسرائيل والدوائر اليهودية الفرنسية كانت دوماً، وما تزال، تتحفظ على جوبيه منذ أن تسلم وزارة الخارجية في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، وأيضاً خلال ولاية نيكولا ساركوزي. ومن هنا يمكن فهم الهجمة المنظمة التي قامت بها أطراف يهودية، ترى في فيون مرشحها المفضل، وأيضاً في صفوف المناصرين لساركوزي، وبعض الأصوات من اليمين المتطرف، ضد جوبيه منذ أن أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، وبدأ بخوض معركة الانتخابات التمهيدية ضد ساركوزي وفيون. ويعتبر بعض المراقبين أن هذه الحملة، التي تركزت بكثافة في وسائل الاتصال الاجتماعي، جعلته يفقد الكثير من النقاط في مواجهة غريمه فيون. فقد انتشرت مقالات كثيرة موقعة بأسماء مستعارة على الانترنت تفانت في تشويه صورة جوبيه، مستندة إلى الأكاذيب والتصريحات الملفقة التي تتهمه بمعاداة السامية، وانحيازه للإسلام السلفي وأطلقت عليه اسم “علي جوبيه”. ونشرت صور لجوبيه وهو يتجاذب أطراف الحديث مع مجموعة من الشبان المصريين في ميدان التحرير، من بينهم نشطاء من جماعة الإخوان المسلمين، خلال زيارة قام بها في مارس/آذار 2011، قبل انتخاب محمد مرسي رئيسا لمصر بأشهر. وتم تأويل هذه الصور وكأنها دعم لجماعة الإخوان المسلمين وتجاهل لمآسي الأقباط المسيحيين. والواقع أن جوبيه صرح وقتها بأنه يتفهم شباب الثورة المصرية بكافة مكوناتهم السياسية ويساندهم في الدفاع عن مكتسباتها ضد من يحاول سرقتها منهم. وقال بوضوح “التقيت بعشرات الشباب من ناشطي حركة 25 يناير في ميدان التحرير، وخلال ساعة ونصف الساعة أنصتّ إليهم وهم يتحدثون عن مشاريعهم وآمالهم ومخاوفهم. لقد أُعجِبْتُ برزانتهم وتصميمهم ورفضهم لسرقة انتصار الثورة على النظام السابق وتحريف مسارها، لأن الانتصار كما يقولون هو انتصار شعب وليس انتصاراً لحزب محدد أو دين معين. لقد تماهيت مع حماستهم وحلمت معهم بمصر متصالحة وديمقراطية”.
كما بث المعارضون لجوبيه العديد من الأخبار الكاذبة، منها تمويله لتشييد أكبر مسجد في فرنسا في مدينة بوردو التي يرأس بلديتها، وعلاقته الودية مع التيار السلفي في فرنسا ومع الداعية الإسلامي، طارق أوبرو المقيم في بوردو. والواقع أن المقصود بهذه الهجمة هو الرؤية المعتدلة والمتسامحة اتجاه الإسلام التي يتميز بها جوبيه في المشهد اليميني الفرنسي، بخلاف فيون وساركوزي اللذين لا يترددان في استخدام فزاعة الإسلام وربطه بالإرهاب لاجتذاب أصوات اليمين المتطرف. وأدان جوبيه، في حوار مع إذاعة “أوروبا 1” أمس الثلاثاء، هذه الحملة التشهيرية من دون تسمية من يقف خلفها. وقال “هناك حملة مسعورة ووضيعة ضدي على وسائل التواصل الاجتماعي تدعي بأنني بنيت مسجداً ضخماً في بوردو، وهذا المسجد لا وجود له، وأيضاً سموني علي جوبيه، وزعموا أنني متواطئ مع السلفيين وأعادي اليهود. إنها حملة مغرضة، والمخجل والمؤسف في الموضوع أن لا أحد من خصومي السياسيين أدان هذه الحملة”.
وفي انتظار الدور الثاني والحاسم من الانتخابات التمهيدية الأحد المقبل، بدا واضحاً أن جوبيه عازم على التركيز على انتقاد فرانسوا فيون بخصوص قضايا السياسة الخارجية، وأنه سيهاجم انحيازه الأعمى للسياسة الروسية في المنطقة العربية ودعوته للحوار مع نظام الأسد وإعادة فتح السفارة الفرنسية في دمشق، ذلك أن شرائح واسعة في اليمين التقليدي واليسار الاشتراكي، التي سيصوت بعضها في هذه الانتخابات، لا تستسيغ هذه التبعية المعلنة التي يتباهى بها فيون، وتشكل ضربة مهينة للكبرياء القومي الفرنسي ولروح الايديولوجية الديغولية التي دأبت دوماً على المحافظة على استقلالية الدور الفرنسي وتأسيس موطئ قدم بين القطبين الروسي والأميركي في الساحة الدولية.
عبد الإله الصالحي_العربي الجديد