صليت عليها الجنازة إماما، كما تمنيت، ورائي ولداها، أبي وعمي، في سفح جبل قرية ” أزوم داليه التركية”، كانت المقبرة بعيدة عن السكن.
هل أصبح الموت والهجرة مصيرنا في حرب الأسد علينا؟ كم نعاني من الهجرة والغربة؟ هل من قلب إلا ويشكو آلام البعد عن الدار، وموسم الخريف؟
جدتي زينب صقللي، ذات الـ 85 عاما. التركمانية الأصل. لم أعرف وجهها الأسمر إلا مخطوطا بتجاعيد رسمتها هموم الدهر على قسمات وجهها. تحكي قصة سنواتٍ من المعاناة..كيف سيكبر أولادي، وكيف سيعيشون؟. وكيف وأين سأموت أنا!
أبت أن تخرج تلك المرأة بظهرها الذي انحنى لهموم الحياة -ولله دائما- من بيتها وقريتها التي عاشت فيها لـ 60 سنة، منذ تزوجها جدي أحمد.
هجّرت قوات الأسد بصواريخ النابالم والقذائف العنقودية أهالي قرية أوبين، والمهجرين من قرى جبل الأكراد الذين سكنوا المخيمات على أطرافها عام 2015.
لم تستطع جدتي العجوز الصمود لوحدها، فلو بقي ابنها الاًصغر نهاد لبقيت.
فهو وصية زوجها لها أن ترعاه. أخذها عمي نهاد ذو ال40 عاما إلى تركيا عبر معبر “اليمامة” الحدودي، اليمامة هي القرية التي عاشت فيها جدتي طفولتها قبا أن تغادرها عروسا، وهذه المرة كلاجئة. كانت اليمامة جسرا للأمان، وأصبحت طريقا للموت. داخل الموت نفسه.
سمعتها مرارا تغني عن الغياب والفرقة حتى قبل اندلاع الثورة، وأنا أساعدها في زرع ” شتلات الخضرة” قرب بيتها، وتسقيني الشاي المصنوع على نار حطب، بنكهته المعهودة الرائقة التي لم أنس مذاقها للآن.
تتناول جدتي كوب الشاي بيدها المغبرة بتراب الأرض، فقد اعتادت ألا تنفضه عن يدها أبداً.
تحب أن يبقى تراب أرضها عالقا بيدها حتى في استراحتها من زرع غراس الخضروات الصيفية!
بقيت في سوريا حتى عام 2017، كنت أزور القرية التي أصبحت خط جبهة لمعارك المعارضة، ومرمى قذائف قوات النظام، وأذهب لبيتها. أدخله، لأشتمّ رائحة جدتي من إبريق الشاي الخاص بها. وأحاول تشغيل التلفاز عبثا، لأتذكرها وهي تضعه على إحدى المسلسلات التي كانت تتابعه بشغف. كم بكت على بعض المشاهد منها، وكم شتمت ذاك الذي يظلم أو يسرق في مسسلسل، أويخون حبيبته. وأنا لا أستطيع أن أقول لها أنه تمثيل!
مات جدي عنها وهي شابة، تركها لـ 3 أولاد. و4 عمات، ماتت إحداهن. وزوجت الثلاثة. كنت كثيرا ما أطلب من والدي الذهاب معها لأنام عندها وأنا طفل. فأشاهدها تشمّ ثوب عمي نهاد، ابنها الأصغر الذي ذهب للجيش، وتبكي عليه، كان لعمي قميص شتوي بني اللون، له أزار كحبة اللوز. لم أفهم وأنا صغير إلا رؤية الدموع، دون معناها.
أقصى ما كنت أرجوه معها، أن لاتموت قبل أن أراها في تركيا وأصلي معها إماما. أخبرني عمي نهاد أنه في اليوم الثاني لهجرتها لتركيا مرضت، ولم تصحُ.
خرجت لتركيا نهاية عام 2016، وتوجهت لمكان إقامة أهلي في قرية أوزوم داليه بالقرب من أنطاكية، زرت جدتي مساء. وجه أصفر شاحب وضعيف تخطه آلام الغربة، والحنين لغرفتها وأرضها، وجسد يشكو
الحياة. والتعب.
قلت لها مساء الخير يا جدتي. كيف حالك؟
فردت علي : من أنت ؟
خالطت قلبي مشاعر مكثفة تتلاطم كالموج ما بين الحزن والشفقة
والبكاء على ردها.
انا محمد يا جدتي
أنت محمد؟ أهلين يا ابني. انا تذكرتك.
في اليوم الثاني ماتت جدتي، وعاشت الذكريات معها.
صليت عليها الجنازة إماما، كما تمنيت، ورائي ولداها، أبي وعمي، في سفح جبل قرية ” أزوم داليه التركية”، كانت المقبرة بعيدة عن السكن.
فهل أصبح الموت والهجرة مصيرا لنا في حرب الأسد علينا؟ كم نعاني من الهجرة والغربة؟ هل من قلب لا يشكو آلام البعد عن الدار، وموسم الخريف؟
محمد إسماعيل
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع