الأوضاع المعيشية في الشمال السوري تبلغ في مناطق كثيرة من السوء حداً يجعل تعليم الأطفال من الكماليات.
تشير دراسات إلى واقع التعليم، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في الشمال السوري، إلى كارثة اجتماعية تتمثل في خروج مئات آلاف الأطفال السوريين من النظام التعليمي. ومع سلسلة الكوارث التي تطوّق الشمال السوري، تتربع هذه المأساة على رأسها، فالحرمان من التعليم للجيل الحالي من الأطفال السوريين هناك، يعني بداهةً حرمانهم من أدواتٍ أساسيةٍ للمعرفة، والترقي العلمي، والمهني، والحضاري، مع كل التأثيرات السلبية لذلك في بيئاتهم الاجتماعية.
من بين هذه الدراسات، أصدرت “وحدة تنسيق الدعم” التابعة للائتلاف السوري قبل أشهرٍ دراسة مسحٍ للواقع التعليمي في معظم مناطق الشمال السوري، المنقسم بين مناطق الائتلاف و”قوات سوريا الديموقراطية” وإدلب. تذكر الدراسة نسباً مريعة للتسرب من التعليم أي عدم الالتحاق بالمدارس- تقدر بالثلثين من مجموع الأطفال في المناطق التي غطاها المسح. ففي إدلب تصل النسبة إلى 68 في المئة، وفي الحسكة 59 في المئة، وتتراوح النسبة بين 72 و85 في المئة في بعض المناطق كأرياف محافظة الرقة الغربية، وشمال محافظة حلب.
الغموض الحالي لمآلات الوضع السوري يستوجب التركيز على النشء لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. يصعِّب الوضع الأمني، وضعف موارد الكيانات المسيطرة على المنطقة، من إمكانات معالجة أزمة التعليم، أضف إلى ذلك صعوبة الوضع الاقتصادي، إذ تعتمد عائلات كثيرة على الإغاثة لتوفير أساسيات الحياة. تشير دراسة “وحدة تنسيق الدعم” إلى أن أهم ثلاثة أسباب للتسرب المدرسي هي: عدم توفر المال الكافي، عمالة الأطفال، إهمال الأهل.
في ظل هذه المعطيات يبدو أن في تجربة “صندوق العائلة” Bolsa Família، البرازيلية مساهمة في حل مشكلة الحرمان من حق التعليم.
“مبادرة صندوق العائلة” هي برنامج مساعدةٍ اجتماعية يستهدف العائلات الفقيرة، أطلقته حكومة لولا دي سيلفا في البرازيل عام 2003، في إطار جهودها لرفع مستوى المعيشة للعائلات الفقيرة، خصوصاً في نواحي التعليم، والصحة، والدخل. وقد تقاطرت الإشادات من مختلف المشارب والرؤى الفكرية، والاقتصادية، بهذا المشروع، لنجاحه في المساهمة في حل مشكلة التسرب المدرسي، وتخفيض نسبة الفقر، وتحسين المستوى الصحي للطبقات الفقيرة. وما زال البرنامج قائماً، وفي العام الماضي حصلت الحكومة البرازيلية على قرض بمليار دولار من “البنك الدولي” لتمويل البرنامج وتوسيعه.
يقوم البرنامج على ربط مساعدةٍ نقدية شهرية مشروطة، يفضل دفعها للأم عن كل طفل- حتى خمسة أطفال- مقابل التزام الأهل بإلحاق الأطفال بالدوام المدرسي، وبرنامج التلقيح، وفحص صحي دوري. تقوم وزارتا الصحة والتعليم بالتنسيق مع إدارة البرنامج، وتراقب تنفيذه وآداءه ومدى نجاحه في تحقيق مهماته.
مصدر قوة هذا البرنامج يأتي من دمجه أبعاداً إنسانية عدة، إذ يربط البعد الإعاشي من خلال المساعدة النقدية، بالبعدين التعليمي والصحي الأساسيين في كسر دورة الفقر لأطفال العائلات الفقيرة. استمرار البرنامج في البرازيل لـ18 عاماً، و نسخ دولٍ أخرى هذه التجربة، يأتيان من نجاحه في تحسين ظروف ملايين العائلات الملتحقة بالبرنامج.
وعدا توفير الدعم المادي المباشر للعائلات التي تعاني ضائقة اقتصادية، والمحتاجة إلى إرسال أطفالها للعمل، فللبرنامج فائدة أخرى؟ ففي ظل هشاشة الظروف المعيشية، وكوم الصدمات المادية، والنفسية، التي تحل بالكثير من قاطني مناطق الشمال السوري، يوفر “برنامج صندوق العائلة” حوافز تعالج تراخي الأهل في إرسال أطفالهم إلى المدارس، وهو سببٌ مهمٌ للتسرب الدراسي بحسب دراسة “وحدة دعم التنسيق”. أضف إلى ذلك، تشي التجربة البرازيلية بمساهمة البرنامج في تعزيز مكانة المرأة مع ترجيح كونها المتلقي للمساعدة النقدية.
يقوم البرنامج على ربط مساعدةٍ نقدية شهرية مشروطة، يفضل دفعها للأم عن كل طفل- حتى خمسة أطفال- مقابل التزام الأهل بإلحاق الأطفال بالدوام المدرسي
في مجال التطبيق، يمكن سبر أجور ساعات العمل وتكاليف المعيشة لتقدير حجم المساعدة النقدية لكل عائلة فقيرة بحسب عدد أطفالها، ثم تقوم إدارة المشروع بالتنسيق مع الجهات الصحية والتعليمية، في كل منطقةٍ لتنفيذ المشروع. هناك أيضاً فائدة أساسيةٌ للبرنامج الذي تم تعديله، وتطويره خلال سنوات تطبيقه، وهي توفيره أدواتٍ مجربةٍ للمراقبة و قياس الأداء والنتائج. مع غياب دولةٍ مركزيةٍ في الشمال السوري، ليس بالإمكان نسخ هذه الآليات، إلا أنه تمكن الاستفادة من غنى التجربة في هذا الجانب.
يشكل التمويل العقبة الأساسية في تنفيذ هذا المشروع. ويتناسب مدى نجاح المشروع في تحقيق أهدافه مع حجم التمويل، فيمكن الانتقال من أولوية استهداف محو الأمية إلى مرحلة التعليم الأساسي والتعليم الثانوي بمقدار توفر الدعم المادي. وفي هذه النقطة، تمكن الاستفادة من الاعتراف العالمي بنجاعة “مشروع صندوق العائلة” في مخاطبة الجهات المانحة لتمويل البرنامج.
الأوضاع المعيشية في الشمال السوري تبلغ في مناطق كثيرة من السوء حداً يجعل تعليم الأطفال من الكماليات. مع إدراك هذا الوضع يجب أن يتحلى المشروع بالمرونة في التطبيق، وفي تصميمه الحوافز والشروط، وفي ترتيب الأولويات.
بأمل تخفيض أكلاف حرب النظام على الشعب السوري، وتوفير فرص حياةٍ كريمةٍ للجيل الناشئ، لعل في عرض هذا البرنامج فائدة في إطار البحث عن حلٍ لمأساة التعليم في الشمال السوري، وعموم سوريا وما يشابه ذلك من أوضاعٍ لللاجئين السوريين في دول الجوار.
نقلا عن وكالة درج