محمد اليعقوبي-العرب
كيف تشكلت الحياة على الأرض؟ وهل هي سائدة بأشكال مختلفة في الكون؟ أم إننا نعيش بمفردنا في المجرة التي تحوي ما بين 200 و400 مليار نجم، وكون تقدر عدد مجراته من 100 إلى 200 مليار مجرة أخرى؟
أسئلة عديدة حيرت العلماء، وجعلت من علم الأحياء الفلكي من أكثر العلوم إثارة للجدل في القرن الحادي والعشرين، فهل حقا تحمل التكنولوجيا في طياتها أجوبة مقنعة وقادرة على ملأ فراغات كبيرة في المعرفة البشرية؟
وحاول العلماء جاهدين منذ عقود طويلة تفسير أصعب الإشكاليات الكونية التي حيرتهم، وقد استطاع عالم الفيزياء الإيطالي أنريكو فيرمي في سنة 1950 أن يفجر سؤالا بالغ الأهمية، تمحور حول الكائنات الفضائية الذكية.
فمن خلال مقارنة عمر الكون الذي يقارب 13.82 مليار سنة ونشأة الأرض منذ حوالي 4.5 مليار سنة، لاحظ فيرمي أن لدى الكائنات الذكية -إن وجدت- الوقت الكافي لتطوير تكنولوجيا قادرة على السفر بين النجوم، واستعمار المجرة بأكملها في غضون بضعة ملايين من السنين، وزيارة كوكب الأرض وترك دلائل تثبت وجودها.
وبناء على ذلك، صرح فيرمي أنه لا توجد على الإطلاق حياة ذكية في الكون غير التي نشأت على الأرض، وطرح سؤاله الشهير “أين الجميع؟”.
وأفضت تلك المفارقة إلى طرح العلماء الكثير من الأجوبة الافتراضية. ويسود اعتقاد بأن الحياة خارج كوكب الأرض لا تزال في صورة مكروبية بدائية ولم تتطور كما هو الحال على الأرض.
وافترض البعض أن الحضارات الذكية على كواكب أخرى تسبب في اختفائها التدمير الذاتي الناتج عن حروب نووية طاحنة، أو لعلها قد واجهت كوارث بيئية كالتغير المناخي، أو تعرضت لسقوط كويكبات مدمرة من الفضاء الخارجي ما أدى إلى انقراضها الجماعي.
ويرى البعض الآخر أن المخلوقات الفضائية قد تكون شكلا من أشكال الذكاء الاصطناعي التي تميزت بالوعي والإدراك وتخلصت من المخلوقات الحيوية التي طورتها.
ولكن مع التطور التكنولوجي المتسارع، أصبحت المعرفة البشرية أكثر دقة وقادرة على إعطاء أجوبة منطقية حول أصل الحياة، ورصد إمكانية نشوئها بأشكال مختلفة في العوالم الأخرى.
مع التطور التكنولوجي المتسارع، أصبحت المعرفة البشرية أكثر قدرة على إعطاء أجوبة حول أصل الحياة
وفي رحلة البحث عن الحياة المحتملة خارج الأرض، أعلن العلماء عن اكتشاف غاز الميثان في الغلاف الجوي لكوكب المريخ بواسطة المناظير الأرضية، وقد تم التأكد منه عن طريق مركبة الفضاء “مارس إكسبريس” التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية وكذلك عن طريق المسبار “كيريوسيتي” التابع لوكالة ناسا.
وينتج غاز الميثان وهو مادة كيميائية مرتبطة بالحياة على كوكب الأرض، إما عن طريق البراكين النشطة، وهذا الأمر لم يتم التأكد منه بعد، وإما من خلال العمليات الحيوية لبكتيريا مماثلة لتلك الموجودة على الأرض، عبر تحويل غازي الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، ولا تحتاج هذه البكتيريا إلى الأكسيجين لتبقى على قيد الحياة مما يرجح فرضية وجودها على كوكب المريخ.
وحول هذا الأمر يقول كريستوفر ويبستر، عالم في مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا “على الرغم من أننا نعتقد أنه من المحتمل أن يتم إنتاجه من خلال عملية جيولوجية، إلا أنه لا يمكننا استبعاد إمكانية وجود مصدر بيولوجي أو جرثومي”.
وللكشف عن منابع غاز الميثان التي تتجاوز قدرات المسبار “كيريوسيتي”، تسعى وكالة الفضاء الأوروبية لإطلاق مركبة “إكسومارس” بحلول عام 2020، والتي ستقوم بحفر عمق مترين أسفل السطح ما يفتح المجال أمام احتمال وجود مواد عضوية، وربما إمكانية العثور على الحياة الحيوية.
واكتشف العلماء كذلك أن القمر الجليدي “انسيلادوس” التابع لكوكب زحل قد يدعم الحياة، وذلك من خلال التحليل الكيميائي الذي قام به المسبار “كازيني”، فهو ينفث أبخرة لسوائل دافئة تشبه إلى حد كبير الأبخرة الموجودة على الأرض.
ويعكف الخبراء على تطوير جيل جديد من الأدوات التكنولوجية القادرة على رصد الحياة البيولوجية لهذا القمر، وإطلاقها بحلول عام 2026.
ويعتقد علماء الفلك أن المذنبات والكويكبات يمكن أن تكون ناقلة تحمل كائنات حية للحياة البدائية في جميع أنحاء الكون، وأنها اصطدمت بالأرض وزوّدتها بالماء والمركبات العضوية اللازمة للحياة.
ولإثبات تلك الفرضيات، وتعميق فهمنا حول كيفية تطور الكون ونشأة الحياة، طورت وكالات الفضاء العديد من المسابير لدراسة المذنبات والكويكبات عن كثب.
وفي سنة 2014 تمكنت مركبة الفضاء “روزيتا” التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية من اللحاق بالمذنب “تشوري شوريموف” والتموضع في مدار حوله، وأرسلت مسبارا صغيرا فوق سطحه، ما ساهم في الحصول على ثروة من البيانات.
وخلصت تحليلات نتائج البعثة إلى أن الماء الموجود على المذنب ليس له نفس التركيب الجزيئي الموجود في المحيطات على الأرض. كما تم العثور على أكسيد الكربون والجزيئات العضوية مثل الميثان والأحماض الأمينية والبروتينات، والفسفور الذي يعد عنصرا أساسيا في تكوين الحمض النووي وأغشية الخلايا.
وتعزز هذه الاكتشافات إمكانية أن تكون مكونات الحياة موجودة قبل تكوين الكواكب.
وأطلقت وكالة ناسا في عام 2016 مركبة “أوزوريس ريكس” لإجراء مسح للكويكب “بينو” وهو كتلة صخرية بحجم ناطحة سحاب، يدور حول الشمس، ويزيد قطره عن 500 متر، ويعتقد أنه يزخر بالمركبات العضوية الأساسية للحياة.
والتحقت المركبة مؤخرا بالكويكب وبدأت في عملية المسح المبدئي لسطحه، لتحديد أفضل مكان يمكن الحصول منه على عينة من التربة عن طريق ذراع روبوتية، والعودة بها إلى الأرض بحلول عام 2023.
وتشير البيانات الأولى التي وفرتها أدوات المسبار إلى وجود المعادن المائية على سطح “بينو”، وهو أحد أهداف المهمة، للإجابة عن سؤال مهم للغاية يدور حول كيفية لعب الكويكبات دورا في نقل الماء والجزيئات العضوية إلى الكواكب الشابة في النظام الشمسي بما في ذلك الأرض.
وفي نفس الإطار تسعى مركبة الفضاء اليابانية “هايا بوسا 2” التي تديرها وكالة الفضاء “جاكسا”، لأخذ عينات من صخور وتراب كويكب “ريوغو” ومن ثمة العودة بها إلى الأرض في عام 2020.
وقد وصلت المركبة إلى الكويكب الذي يبعد 300 مليون كيلومتر عن الأرض في يونيو 2018.
ويأمل العلماء أن تحمل العينات المأخوذة من الكويكب، غير المعرضة لآلاف السنين من الإشعاع، أدلة حول بداية الحياة على الأرض ومنشأ النظام الشمسي.
ومن المنتظر أن تخوض عدة بعثات في المستقبل القريب غمار البحث عن حياة مكروبية خارج الأرض، وخاصة على المريخ، و”أوروبا” أحد أقمار المشتري، وقمر زحل “انسيلادوس”، وجميع هذه الكواكب لديها القدرة على استضافة الحياة المكروبية.
وتسعى ناسا إلى الكشف عن الوجود المحتمل لموجات الراديو وانبعاث أشعة الليزر والتلوث الضوئي أو الصناعي للتأكد من وجود حضارة متطورة. وفي أبريل 2018 أوضح الكونغرس الأميركي رغبته في دعم الوكالة للمضي قدما في هذا الاتجاه.
وقد تتمكن البشرية في السنوات القليلة القادمة من القيام بخطوة كبيرة في طريق البحث عن مؤشرات الحياة المحتملة في المجرات البعيدة والكون عموما، وذلك بالاعتماد على جيل جديد من المراصد الفضائية.
ومن بين المشاريع الكبرى في هذا الصدد، تلسكوب “جيمس ويب الفضائي”، وهو نتاج تعاون مشترك بين وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية، والذي من المقرر إطلاقه في عام 2021 ليكون خليفة المقراب هابل.
ويتميز المرصد بقدرة رصد لا مثيل لها، ودقة غير مسبوقة تفوق بكثير إمكانيات تليسكوب هابل، فبإمكانه رصد مجرات ونجوم وكواكب تحجبها السحب الغبارية.
وحساسيته العالية للأشعة تحت الحمراء ستتيح للعلماء مشاهدة البعد العميق لماضي الكون وتوابع الانفجار الكبير، وبداية نشأة أول النجوم والمجرات وسلسلة تطورها.
ولا تزال رحلة اكتشاف أصل الحياة والبحث عنها في عوالم أخرى من الكون متواصلة، ولا شك أن التطور التكنولوجي المستمر سيساهم في دفع عجلة الاكتشاف في مجال علم الأحياء الفلكي ويكون المفتاح للكثير من الأجوبة. وإلى أن يحين ذلك المستقبل الذي يستطيع فيه البشر بالجزم بأنهم ليسوا بمفردهم في هذا الكون السحيق، تبقى الأرض الجوهرة الوحيدة النادرة التي تدعم الحياة، ويكتسي الحفاظ عليها وعلى بيئتها أهمية قصوى لضمان مستقبل جميع الكائنات الحية.