أعلن بالأمس عن زيارة سيقوم بها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن قريبًا إلى تركيا، وتأتي هذه الزيارة بعد نشاط تركي سياسي محموم خلال الأيام الفائتة، في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة.
وأزعم أن ثمة مسائل كثيرة تستحق البحث بين بايدن والرئيس التركي رجب طيّب إردوغان، لا سيما أن سياسات واشنطن إزاء الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أسهمت في تغيير عدد من مواقف أنقرة المُعلنة.
المنطق يقول: إن محاولة الانقلاب التركية – بصرف النظر عن وصفها وتفسيرها وتقييمها وحقيقة دور جماعة فتح الله غولن فيها – جاءت وستظل مَفصلاً مؤثرًا في مسيرة إردوغان وحكومته ذات التوجّهات الإسلامية. أيضًا لا يصحّ التقليل من تأثير العمليات الإرهابية التي هزّت خلال الأشهر الماضية عددًا من مدن تركيا أمام خلفية ارتفاع حرارة المحنة السورية، وارتفاع معنويات القوميين الانفصاليين الأكراد، وتبريد التوتر مع إسرائيل. غير أن أهم ما فرضته سياسات باراك أوباما الشرق أوسطية على تركيا يتصل بالبعدين الروسي والإيراني.
ليس تكرارًا العودة إلى فتح ملف الاتفاق النووي الإيراني، فهذا الملف يشكل المدخل الحقيقي لفهم استراتيجية الإدارة الأميركية الحالية التي ينتهي تفويضها في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. نعم، يشكّل مفتاح فكر أوباما السياسي وأولوياته الاستراتيجية الإقليمية، وخلال السنوات الثلاث الأخيرة ترجم هذا الفكر – المُعلن بصراحة – نفسه على الأرض.
لقد تركت واشنطن لإيران وبشار الأسد المجال لابتزاز المجتمع الدولي، والشعب السوري أيضًا، بمفاضلة مرفوضة أخلاقيًا وسياسيًا بين خيارين أحلاهما مرّ، هما: إما بقاء نظام الأسد الذي هو مخلب قط لملالي طهران ومشروعهم الإقليمي التوسّعي، وإما ترك سوريا وأهل سوريا ضحية لتوحّش «داعش» وتطرّف «القاعدة».
هذا بالضبط ما أراده الأسد وملالي طهران منذ البداية، وما تفسّره ردّات فعل أهالي منبج الفَرِحة بعد زوال كابوس «داعش» عنهم.
هذا «السيناريو» كان الوسيلة الوحيدة لـ«تبييض صفحة» نظام احترف، منذ خريف 1970، الابتزاز والقتل والمزايدة والمتاجرة بالشعارات تغطية لتقديم خدمات تناقض كل تلك الشعارات. وهو أيضًا ما أرادت واشنطن – أوباما السير فيه عبر إفشال المعارضة السورية المعتدلة ذات المشروع الوطني، والتقليل من شأنها ومنع السلاح النوعي عنها، والرفض المستمر لحمايتها بـ«مناطق حظر طيران» و«ملاذات آمنة» تحت ذرائع واهية يُسقطها كل يوم التدخل الأميركي في العراق وليبيا والتنسيق العميق مع الميليشيات الكردية.
لقد كان السكوت عن نمو «داعش» مُتعمَّدًا بل ومطلوبًا. لهذا لم تُقصف الرّقّة أو تهدّد حتى بعد سنة كاملة من تحويلها إلى «عاصمة» لدولة «داعش» المزعومة، وظل للتنظيم مواقع وتمدّدات في ضواحي دمشق وبادية الشام المكشوفة للطيران الحربي، بل حتى قرب خطوط الفصل مع إسرائيل في الجولان.
في هذه الأثناء أخطأت القيادة التركية في أمرين اثنين: الأول، الإفراط في إطلاق التهديدات للأسد وإغداق الوعود لثوار سوريا… من دون ضمانات. والثاني، الالتباس في الموقف من طهران، مع أنه كان على أنقرة إدراك مدى وطبيعة التورّط الإيراني في دعم الأسد منذ «تكليف» الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية الخاضعة لإمرة «الحرس الثوري» بالقتال داخل سوريا.
قد يقول قائل إن الخطأ التركي المزدوج قام على حسابات خاطئة أساسها الاطمئنان الساذج إلى دعم واشنطن وحلف شمال الأطلسي (ناتو). ومن ثم، إغفال ما يعنيه خذلان واشنطن «الحليف التركي» القديم الذي هو أصلاً أسير واقع جيو – سياسي إشكالي تاريخيًا مع روسيا.
المرجّح أن أنقرة كانت قد بدأت تقلق عندما لاحظت تزايد التفاهم إلى حد التماهي شبه الكامل بين واشنطن وموسكو إزاء الأزمة السورية، وتطوّر الدعم الروسي للنظام منذ اندلاع الثورة، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر في سبتمبر (أيلول) 2015. غير أن حادث إسقاط الطائرة الروسية عند المنطقة الحدودية في أواخر نوفمبر أوضح الأمور بجلاء تام. إذ جاء فتور «التضامن» الأميركي والأطلسي مع أنقرة في وجه تهديدات فلاديمير بوتين الصارمة دليلاً قاطعًا على أن صفحة تحالف حقبة «الحرب الباردة» بين تركيا والغرب طويت.. ربما إلى الأبد.
أكثر من هذا، جاء رهان واشنطن على الميليشيات «القومية» الكردية ودعمها بقوة على طول الحدود التركية السورية – على الرغم من الاعتراضات التركية – ناهيك بالتحمّس الأميركي للتدخل ميدانيًا في العراق بمجرد تهديد «داعش» مناطق الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق؛ ليزيدا شكوك القيادة التركية وقلقها. ولم يطل الوقت حتى وقعت المحاولة الانقلابية، التي سارع إردوغان إلى اتهام غولن – المقيم في الولايات المتحدة – بالتورّط بها، والتلميح إلى «دور أميركي» ما فيها.
هنا، يبدو أن كل المحظورات سقطت، واعتبرت القيادة التركية نفسها أمام معطيات دولية وإقليمية جديدة. وبالفعل، قرّر إردوغان أن عليه التحرّك في ضوء تخلّي واشنطن عن تركيا في وقت حاجة الأخيرة إليها، واستخفاف الإدارة الأميركية بما تعنيه «كردستان الكبرى» من خطر على الكيان التركي وكيانات المنطقة. وعلى هذا الأساس اتخذت خطوة الانفتاح على القوى الثلاث التي يُحسب حسابها على مستوى الشرق الأوسط، أي: روسيا وإسرائيل وإيران.
روسيا لأنها تحت قيادة بوتين أضحت لاعبًا نشطًا وطموحًا يحرص على استعادة نفوذ الاتحاد السوفياتي الذي كان له حضوره الكبير في المنطقة، ولأنها المنافس التاريخي المسيحي اللدود لتركيا المسلمة في شرق أوروبا والقوقاز ووسط آسيا.
وإسرائيل لأنها «قوة عظمى» صغيرة الحجم، لكنها عميقة التأثير في الغرب، وبالذات داخل مؤسسة السلطة السياسية الأميركية.
أما إيران، فهي «قطب» تاريخي في الشرق، عايشت كياناته وسلالته الحاكمة كيانات تركيا وحكامها عبر التاريخ عبر فترات تنافس وعداء.. وتعاون وتحالف. وفي أرض إيران من المتحدّرين من أصول تركية أكثر مما في أرض تركيا من غير الأتراك. ولئن كانت الدولتان اليوم في حالة تنافس، بل وخلاف عميق في سوريا، فإن همهما إزاء مشروع «كردستان الكبرى» واحد. ومن ثم قد تكون «البوابة الكردية» المدخل لتعايش مصلحي مؤقت وتقاسم نفوذ إقليمي استنسابي على حساب الغائب الأكبر عن الساحة.. العرب!
نقلاً عن “الشرق الأوسط”
إياد أبو شقرا – العربية