المسألة الكردية ستكون الدافع القوي الذي سيرغم تركيا على أن تلتقي مع سوريا وإيران، خاصة وأن هذه الأطراف الثلاثة يجمعها هدف واحد يتلخص في عدم القبول بقيام دولة كردية رغم تقاطعها في قضايا أخرى كثيرة.
هناك ازدواجية واضحة من قبل تركيا لا تستطيع إخفاءها في قضية تعاملها مع الأكراد، فهي من جهة ترتبط مع إقليم كردستان العراق بعلاقات اقتصادية وسياسية جيدة، ومن جهة ثانية تتعامل وبقسوة مع تطلعات حزب العمال الكردستاني في إقامة إقليم كردي في جنوب شرق البلاد الذي تقطنه غالبية كردية، حتى أن تاريخ العلاقة بينهما قد اصطبغ بعنف شديد متبادل استمر لفترة تزيد على ثلاثة عقود، نتيجته كانت تساقط أعداد من القتلى والجرحى من الطرفين، سواء من الجيش التركي أو من حزب العمال الكردستاني، فكلاهما لم يبخل على الآخر بالعنف.
ورغم العلاقة الجيدة التي يرتبط بها الحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود البرزاني، مع الأتراك إلا أن ذلك لم يمنعه من الإعلان، وبشكل صريح وقوي، بين فترة وأخرى عن تطلعه الثابت والقوي إلى الانفصال عن العراق والسعي الجدي لقيام دولة كردستان.
ما يؤكد على أن الأكراد ماضون في سعيهم إلى هذا الهدف / الحلم، طال الزمن أو قصر، أنهم قد هيأوا ما يحتاجونه من بنى تحتية لإقامة الدولة طيلة العقدين الماضيين، أي منذ مطلع تسعينات القرن الماضي عندما غزا العراق دولة الكويت، وفي خضم تلك الأيام، بما شهدته من أحداث وتطورات دراماتيكية على المستويين المحلي والدولي، تم الإعلان عن قيام الإقليم الكردي في شمال العراق على إثر انهيار سلطة البعث في تلك المناطق.
العلاقة الجيدة التي ترتبط بها تركيا مع إقليم كردستان العراق وخاصة مع مسعود البرزاني وحزبه يمكن النظر إليها من زاوية محاولة تركيا استثمار الصراع القائم ما بين حزب عبدالله أوجلان (العمال الكردستاني) وبين الديمقراطي الكردستاني.
هذا الصراع ليس من السهل تجاوزه خاصة وأنه يكتسب أبعادا مختلفة يتقاطع فيها الطرفان، منها ما هو أيديولوجي، ومنها ما يتعلق باختلاف الرؤية الإستراتيجية لشكل إدارة الدولة الكردية التي يسعى الطرفان إلى تحقيقها. من هنا فإن تركيا لا تتوانى عن إدامة هذا الصراع بينهما حتى تتمكن من تحقيق عدة أهداف كلها ستصب في النهاية لفائدتها، هذا من وجهة نظرها على الأقل، في مقدمة هذه الأهداف ألا يصبح إقليم كردستان العراق عمقا إستراتيجيا من الناحية العسكرية لحزب أوجلان، يتيح له التحرك بكل حرية في عمق جغرافي وعر بعد كل عملية عسكرية يستهدف فيها الجيش التركي، وبذلك تتاح لها الفرصة حتى تلاحقه داخل أراضي الإقليم.
إن تركيا، تحت أي ظرف، لن تقيم علاقات مميزة مع أي طرف إقليمي مؤثر في الصراع الدائر على الساحة السورية إذا لم يضمن لها مصالحها المتعلقة برفض إقامة إقليم كردي في شمال سوريا، وهذا بالنسبة إليها خط أحمر لن تسمح بتجاوزه.
من هنا كان لديها استعداد كبير بعد الانقلاب الفاشل لأن تغير من قناعاتها بعدد من القضايا، سواء بعلاقتها مع الغرب أو مع بعض الدول الإقليمية، ولعل المسألة السورية تأتي في مقدمة هذه القضايا، فما يهمها، بالدرجة الأساس، أن تضمن عدم تحقيق المشروع الكردي في شمال سوريا الذي يؤسس له حزب الاتحاد الديمقراطي، بزعامة صالح مسلم الذي يرتبط بعلاقة وثيقة مع حزب أوجلان.
في نفس الوقت لم يكن يبدو على تركيا في ظل هذه المتغيرات أنها كانت مندفعة كثيرا في مسألة التفريط بعلاقاتها وتحالفاتها مع أميركا والغرب، حتى بعد اتضاح موقف هذه القوى من الانقلاب العسكري الفاشل الذي كانت تلك القوى أقرب إلى تأييده منها إلى تأييد استمرار حزب العدالة والتنمية في الحكم.
إلاّ أن حالة الضعف التي أصابت الدولة التركية في الجانب الأمني والسياسي على إثر تداعيات الانقلاب العسكري الفاشل وضعت أردوغان في موقف لا يحسد عليه، وهذا ما أرغمه على أن يعجل بفتح صفحة جديدة مع روسيا وإيران بعد أن كان يعدهما خصمين لدودين يتنازعان معه النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وخاصة في سوريا.
بنفس الوقت فإن هذه التطورات في الموقف التركي على مستوى العلاقات الخارجية ليس من الصحيح أن تقودنا إلى القبول بفكرة أن الانقلاب العسكري الفاشل هو السبب الرئيس الذي يقف خلفها، على الرغم من أهمية هذا العامل، ومن الممكن جدا أن يكون تأثير هذا العامل حاضرا بقوة في إطار الداخل التركي بصورة أكبر بكثير فيما لو قورنت تداعياته على مستوى سياسة تركيا الخارجية.
من هنا جاءت الانعطافة السريعة في موقف أردوغان تجاه روسيا وإيران في محاولة منه للخروج من حالة الوهن التي أصبح عليها موقف الدولة التركية، خاصة بعد أن وسّع من حملة الاعتقالات بين صفوف الجيش وبقية المؤسسات الحكومية، بذريعة مساندتهم للانقلاب والكيان الموازي الذي يدعمه فتح الله كولن خصمه اللدود، ولكي يقطع الطريق على خصومه في الداخل في أن يباشروا بالضرب تحت الحزام مستغلين حالة الضعف التي وصل إليها النظام السياسي الحاكم بزعامة حزب العدالة والتنمية، بذلك أراد أردوغان أن يضع جميع خصومه في سلة واحدة (حزب العمال وفتح الله كولن وتنظيم داعش) باعتبارهم إرهابيين، حسب زعمه، لكي يسهل عليه ضربهم جميعا بنفس الوقت.
العلاقة الجديدة مع روسيا وإيران لم تتضح ولم تترجم على الأرض حتى الآن، إلا إذا كانت عملية قصف مقرات وحدات حماية الشعب الكردستانية في الحسكة الخميس 18 أغسطس من قبل طيران النظام السوري تأتي ضمن ملامح هذه العلاقة.
لكن ما هو مهم جدا بالنسبة إلى تركيا في موضوع هذه العلاقة أنها لن تسمح أبدا بأن تؤثر على موقفها الرافض لقيام كيان كردي في شمال سوريا مهما باعدها هذا التصلب في الموقف عن الحليف الأميركي، الذي على الضد منها، قدم الكثير من الدعم العسكري لوحدات حماية الشعب الكردستانية، ولقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد، لأنها تدرك جيدا أن أي مرونة قد تبديها من جانبها في مسألة التعاطي مع موضوع الإقليم الكردي في شمال سوريا تعني، بالنتيجة، أن باب الحكم الذاتي للأكراد سيفتح في جنوب تركيا على مصراعيه، وبذلك سيكون خطوة مهمة وكبيرة لولادة الإقليم الكردي على أرضها، ولربما الدولة الكردية في أقرب فرصة لاحقة وهذا يعتبر بالنسبة إليها بمثابة كابوس.
ووفق هذا المنظور ستكون المسألة الكردية الدافع القوي الذي سيرغم تركيا على أن تلتقي مع سوريا وإيران الدولتين المعنيتين بالملف الكردي، حتى يتم التنسيق في ما بين البلدان الثلاثة للمرحلة القادمة، خاصة وأن هذه الأطراف الثلاثة التي يتواجد فيها الشعب الكردي يجمعها هدف واحد يتلخص في عدم القبول بقيام دولة كردية رغم تقاطعها في قضايا أخرى كثيرة.
العرب – مروان ياسين الدليمي