تركيا تسعى إلى استعادة علاقات جيدة مع سورية. تركيا لن تستعيد علاقاتها مع سورية إلا برحيل الأسد. تركيا ستمنح الجنسية للاجئين السوريين المقيمين على أرضها. تركيا، لن “توطن” السوريين وإنما ستدرس “كل ملف على حدة”، وتساعد “الراغبين” منهم في البقاء في استصدار جوازات سفر تركية.
قد يبدو ما سبق أقرب الى الأحجية السمجة، لكنه في الواقع، ملخص السياسة الخارجية التركية حيال القضية السورية في الأيام القليلة الماضية، معطوفاً عليه عدد من القفزات المتناقضة التي تبعث على الحيرة والقلق وليس آخرها الانعطافة السريعة وغير المتوقعة نحو تطبيع العلاقة مع روسيا وإسرائيل.
فالموقف الصادر عن وزير الخارجية بن علي يلديريم، والقائل بضرورة استعادة علاقات جيدة مع الجوار خصوصاً سورية والعراق، بدا ظاهرياً متعارضاً مع السياسة التركية العامة في السنوات الخمس الماضية، ومواقف الرئيس رجب طيب اردوغان شخصياً والتي توصف بـ “الشعبوية”، وهو الذي وعد قبل أسبوع فقط بمنح اللاجئين السوريين المقيمين على أرضه الجنسية التركية.
ولم يجد كثيراً تراجع الوزير عن كلامه في اليوم التالي بعد الصخب الذي أحدثه، وتوضيحه أن العلاقة الجيدة مع سورية لا تستقيم الا برحيل الأسد، وأن ذلك أمر مفروغ منه، كما لم تجد توضيحات أخرى في شأن مسألة التجنيس وهي أكثر أهمية من الإعلان نفسه.
والحال إن كلام يلديريم ليس مقطوعاً من سياقه ولا تغريداً منفرداً وشاذاً كما قد يبدو، بل هو يعكس خطاً سياسياً يعمل عليه الرجل منذ توليه منصبه وبدأ سربه يزداد عدداً داخلياً. فهناك اقتناع متنامٍ اليوم بحاجة تركيا الملحة “إلى زيادة الأصدقاء وتقليص الأعداء” على ما قال يلديريم في غمز واضح من سياسة سابقة جعلت تركيا تعيش في جوار معاد، وعزلة دولية بدأت تظهر أثمانها الباهظة سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
فهناك في الواقع تململ عام ومتنام من سياسات اردوغان حيال سورية، حتى ضمن المؤيدين للثورة فيها من الأتراك، ومن داخل حزب “العدالة والتنمية” نفسه. فقد فجرت الاعتداءات الأخيرة على مطار اتاتورك المواقف المكبوتة من الدعم السيئ للثورة السورية، وكشفت تصدعاً داخلياً قد يكون أحدَ تجلياته انشقاق حزبي عن تيار أردوغان، لمصلحة “عدالة وتنمية” يعلي النظام البرلماني والهيكلية السياسية الواضحة على النزعات الشخصانية- الرئاسية الأخيرة.
وعليه، تظهر أي حسابات منطقية أن ذلك الدعم الأعمى للثورة السورية على حساب علاقات دولية ومصالح اقتصادية وضغوط داخلية انما هو رهان خاسر. فبعد خمس سنوات، لا الثورة انتصرت ولا انقرة اضطلعت بالدور الإقليمي الذي طمحت اليه منذ أول “فلوتيلا” أبحرت باتجاه غزة. فإذا كانت الثورة السورية منحت أردوغان فرصة ذهبية لفرض نفسه مفاوضاً إقليمياً، فإن طموحه الجامح بقيادة الشرق الأوسط وتزعم القضايا العربية و “الإسلامية” يعود الى سنوات قبل انطلاق تلك الشرارة في 2011. ولعل المؤلم لأردوغان الذي استثمر استثماراً خاطئاً في الثورة السورية، أن الوضع ما كاد يتحول إقليمياً بالفعل، ويحتاج الى قيادة حقيقية، حتى كان اردوغان قد استنفد مخزونه من الخطابات والمواقف النارية المتقلبة، وأسكرته السلطة، فعاد الى حجم أقل من حجم بلاده المفترض في ظرف من هذا النوع. لذا، يبدو منطقياً جداً أن تعلو أصوات كصوت وزير الخارجية وأن تطلق بالونات اختبار حول ضرورة البحث عن أصدقاء وتطبيع العلاقات مع الجوار وتقليل أضرار السياسات السابقة. وبدأت قنوات تفتح بالفعل مع النظام السوري، وإن ضيقة وهامشية لكنها بدأت تطفو على السطح ولا مؤشرات إلى التضييق عليها أو منعها، ومنها زيارة وفد من “حزب الوطن” لمسؤولين سوريين. وذلك على غرار تلك الوفود “اليسارية” أو القومية الأوروبية التي تذهب للسياحة في تدمر وحلب، فيسهل التنصل منها رسمياً، أو الاستثمار فيها حين تدعو الحاجة.
بالون اختبار آخر، لم يتم التوقف عنده ملياً، كان التوضيح الذي تلى الإعلان عن تسهيل تجنيس اللاجئين السوريين أو “توطينهم” في تركيا، ولاقى ترحيباً دولياً سريعاً من الأمم المتحدة، وغضباً محلياً عارماً ترجم في حملات عدائية علنية. ففي إحدى قفزاته المفاجئة، أعلن اردوغان خلال مأدبة إفطار عن قرار بهذا الحجم، ثم سارعت الداخلية التركية الى التوضيح أن “المفيدين” من السوريين هم من سيتم تسهيل أوراقهم. والمقصود بالمفيدين هم هؤلاء الذين لا يشكلون عبئاً على الحكومة، من غير القاطنين في المخيمات والمعوزين، القادرون على الإنتاج وإعالة أنفسهم وعائلاتهم ودفع الضرائب. وإذا كان اردوغان أطلق تلك الفقاعة رسمياً منذ أسبوع، إلا أن سياسة ممنهجة تطبق في هذا الاتجاه منذ فترة غير وجيزة.
فقد تم بداية منح جوازات سفر غير قليلة للمقربين من دوائر القرار وحلفائهم السياسيين، لا سيما في السنوات الأولى للثورة. ثم جاءت قوارب الهجرة غير الشرعية التي كانت تنطلق من الشواطئ التركية بعلم وخبر، وتوقفت بقرار سياسي، وحملت ما يمكن حمله الى اوروبا. فبدأ تصدير الأزمة وناسها، لكن المفاجأة كانت أن معظم من رحلوا هم أصحاب الكفاءات والمهن وأبناء الطبقة الوسطى، فيما بقي من سيشكل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً. اتضح ذلك أكثر بعد عودة أفواج رفضت أوروبا توطينهم فكثر الحديث داخلياً عن “انتقائية إنسانية” في اختيار اللاجئين، ليس ما يمنع تركيا من تطبيقها بدورها. أما البقية التي باتت ظروف بقائها صعبة، وتعاني مشكلات لغة واندماج، فيمكن تسهيل عودتها الى سورية عبر فتح المعابر موسمياً وربما ضمان شريط حدودي آمن في مرحلة لاحقة.
وبين خارجية تسعى إلى كسب الأصدقاء وتطبيع علاقاتها مع الجوار مع الأسد أو من دونه، وداخلية تواجه ملفاً شائكاً كالتجنيس وما يطرحه من تحديات ديموغرافية، يواجه اردوغان استحقاقات فعـــلية قد تحول دون بقائه في الحيز الرمادي وممارسة “رياضة” القفز البهلواني.
الحياة